تتواصل في تونس وبطريقة غير مسبوقة جرائم تقتيل النساء التونسيات، جرائم كانت هي الأبشع خلال السنوات الأخيرة، بعيدا عن منطق التهويل الاعلامي والتضخيم الاخباري، وقريبا من الأدوات الحادة والوسائل الغريبة التي لاحظنا انتشارها بكثافة وغزارة، عمليات كانت هي الأشد والأصعب على عديد النساء، وظلت في ثنايا العدالة قصصا تزين أروقة المحاكم دون أن تدانا الخطايا أو يحاسب مسؤولوها.
خلال أخر عيد لها، ومع هذا العدد الهائل من الجرائم رددن العديد، “عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ. بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ”، كان قول المتنبي قد يستقيم أكثر في حال حضرغرض الرثاء في قصيدته هذه، حيث تخاطب المراة التونسية العام الماضي عيدها كما خاطب المتنبي العيد وتساءل، وتتساءل هي أيضا والى اليوم، بما مضى عدت يا عيدي أم بأمر فيك تجديد، ولا يبدو خطابها مشحونا بالسعادة بقدر ما يحمل في طياته من الحزن والقلق ما يكفي على ضوء الارتفاع القياسي لا في مؤشرات العنف ضدها فقط بل أيضا في ارتفاع عدد حالات القتل التي تطالها يوميا وخلال هذا العام، بالعدالة ربما أو بتشريعات قانونية أكثر حماية لها مما يحدث عليها.
نعم، عاد عيدها عودة ليست كسائر العودات، وأين التجديد في الوقت الذي تسجل فيه تونس خلال عام ونصف 26 حالة تقتيل للنساء التونسيات والزوجات، وسط تراكم الملفات أمام الجهات القضائية دون البت في أحكام نهائية تسترجع على الأقل حقوقهن ، أو حتى أي تشريعات قانونية واضحة من شأنها أن تضع حدا لجرائم التقتيل وسط صمت حكومي كبير ورفض في تشريك كل الأطراف الفاعلة في المجتمع لارساء استراتيجية للحد من هذه الظاهرة.
تقتيلا وتعنيفا للمرأة.. أرقام قياسية في تونس تسجل لأول مرة..؟
يحدث ولأول مرة في تونس أن يقع تسجيل معدلات قياسية على حد اعتبار عديد المنظمات الوطنية وحتى السلطات التونسية في تعنيف وتقتيل النساء، فمنذ بداية سنة 2023 والى حد شهر اوت، سجلت وزارة المرأة التونسية 26 حالة تقتيل للنساء التونسيات بين سنتي 2023 و 2024.
وبالعودة إلى الاحصائيات التي نشرتها وزارة المرأة التونسية تم خلال الثلاثي الأول من سنة 2023 تم تسجيل أكثر من 921 حالة عنف ضد المرأة منها 654 حالة يكون القائم فيها بالعنف هو الزوج أي يمعدل 71 بالمائة.
وتؤكد الوزارة أيضا أن معدل العنف خلال الثلاثي من سنة 2023 سجل ارتفاعا قياسيا مقارنة بنفس الفترة خلال سنة 2022، حيث تقول التقارير أنه خلال الفترة نفسها من سنة 2022 وقع رصد 168 اشعارا يتعلق بالعنف الزوجي وهو ما يعني ارتفاع معدل هذه الظاهرة بأكثر من 3 مرات خلال سنة 2023.
وتتوزع إشعارات العنف ضدّ المرأة البالغ عددها 232 إلى 193 إشعارا بعنف لفظي و132 إشعارا عن عنف نفسي ومعنوي و167 اشعارا عن عنف جسديّ ومادّي و57 إشعارا عن عنف اقتصاديّ و4 اشعارات بخصوص عنف جنسيّ، ويمثّل العنف الزوجي أكبر نسبة تقدّر بـ 81 بالمائة من مجموع حالات العنف ضد المرأة مقابل 72 بالمائة خلال الفترة السابقة الممتدة من 25 مارس الى 25 افريل 2023.
بلغت نسبة العنف المعنوي ضد النساء 31%، فيما بلغت نسبة العنف المادي 58%، والعنف الجنسي 3% والعنف الاقتصادي 6 % ، وفق إحصاءات خاصة بالأشهر الأولى من سنة 2024 نشرتها الإدارة العامة للأمن الوطني.
وقد بلغت نسبة المعتدين من المورطين في قضايا العنف ضد المرأة الذين تمت إحالتهم على أنظار العدالة 88.79 %، وفق الإحصاءات ذاتها.
ومثلت قضايا العنف ضد المرأة من قبل القرين النسبة الأكبر إذ تعرضت نسبة 50.86% من النساء لأحد أشكال العنف من قبل الشريك فيما مثلت قضايا الاعتداء الجنسي على النساء بمختلف أشكاله من قبل رجل لا تربطهن علاقة 75.54 % مقابل %24.46 من قبل أشخاص تربطهن علاقة بهم.
وكانت نسبة النساء اللواتي أعمارهن بين 31 – 40 سنة أكثر تعرضا للإعتداء بالعنف بنسبة 42.28% من مجموع النساء حسب القضايا المسجلة في المجال.
بناء على هذه الأرقام يسجل معدل العنف بمختلف اشكاله ارتفاعا كبيرا في تونس، كما أنه يعتبر من ضمن العوامل الأساسية التي تؤدي إلى جرائم تقتيل النساء في الحالات التي لا يقع فيها التصدي له، ومن ضمن الأمثلة المهمة قضية رفقة الشارني المعروفة في تونس، وجريمة القتل البشعة التي جدت بولاية الكاف بالشمال الغربي للبلاد، الأم لطفل التي أرداها زوجها قتيلة بخمس طلقات من مسدسه الحكومي بعد أن بلغ إلى مسامعه أنها تقدمت بشكاية ضده بسبب تعنيفه لها، حيث ظل زوج رفقة في حالة سراح بعد تقديم الشكاية ووقع القبض عليه بعد أن قام بقتلها.
في هذا الاطار تقول رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات نائلة الزغلامي ” خلال سنة 2023 سجلنا ما يفوق 21 عملية تقتيل للنساء التونسيات، وكل جريمة يقع تسجيلها تكون أبشع بالكثير من الجريمة التي سبقتها وتكون نتيجة لحلقة عنف انطلقت قبل الجريمة”.
وبحسب الزغلامي فان مختلف الجرائم التي وقعت في تونس هي نتاج للتطبيع مع ظاهرة العنف الزوجي والعنف العائلي الذي يقع التسامح معه دون وضع أي اليات حماية من خلال اقناع الزوجة بضرورة الحفاظ على العائلة والأطفال والعودة إلى منزلها أين يتم تعنيفها مرات ومرات حتى يصل الأمر حد القتل وفق توصيفها.
تقتيل النساء.. ظاهرة تونسية أم عالمية؟
بالرغم من بعض الخطوات المهمة التي وقع اتخاذها في مسار بناء الدولة الوطنية في تونس على غرار مجلة الأحوال الشخصية التي نقلت مسألة الطلاق من بين يدي الرجل إلى المحاكم ومسألة منع تعدد الزوجات وعديد من الامتيازات الأخرى التي تمتع بها المرأة التونسية فجر الاستقلال وصولا إلى القانون الأساسي عدد 58 الذي يدين كل أشكال الاعتداءات بمختلف أنواعها على المرأة، فان النظرة الازدراية للمرأة التونسية مازالت قائمة إلى حد اللحظة.
في هذا الصدد تقول الدكتورة سلوى الشرفي الباحثة في الجندر والاعلام ” العنف ضد المرأة والتقتيل ظاهرة عالمية من اسبابها الثقافة “الباتريركية” الابوية السائدة.. ومنذ تم تقسيم الأدوار بين الجنسين، خصص للرجل الفضاء العام للعمل وخصص للمرأة الفضاء الخاص للعمل، لكن الرجل ظل لا يعترف بعمل المرأة ومساهمتها المادية في الحياة “.
وبحسب الشرفي يعتبر الرجل في المجتمع وبناء على النظرة العامة قواما للمرأة ومنها هي اعطي له الحق في مرتبة أعلى تسمح له حتى بتاديبها بالضرب بما انه يعيلها.
وتوضح الدكتورة “من هنا جاءت النظرة الدونية للمرأة واعتبارها نصف انسان، هذا هو الاساس الثقافي، لكن بدأ العالم يعمل على تغيير هذه الثقافة خاصة بعد دخول المرأة المجال العام”،وفق وقولها.
وبحسب الباحثة يتطلب تغيير هذه الوضعية استراتيجية شاملة تبدأ بالتربية في البيت ثم المدرسة ووسائل الاعلام، أي بمختلف وسائل التنشئة الاجتماعية، وتقول الشرفي أن هذا التغيير حدث نسبيا في تونس حتى وقعت ردة تقول بأن المرأة عورة وزينة ووعاء جنسي.
وبخصوص دور الاعلام في التعاطي مع هذا الموضوع تقول الدكتورة بأن الخطاب الاعلامي تقهقر خاصة على مستوى المسلسلات التي أصبحت تتحدث عن زواج عرفي مثلا وتعدد الزوجات التي ترسخ دونية المرأة”.
وتتابع ” ومع الأزمة الاقتصادية الخانقة أصبحت هناك خلافات بين الزوجين وبما ان الأزمة أثرت على نفسية الناس أصبح اللجوء الي العنف ظاهرة شبه يوميا”.
بسبب ” الخبز ” تتعرض للعنف وتهدد بالقتل وتغادر المنزل؟
تتحدث السيدة ” مليكة ” التي تقيم بتونس العاصمة وتتولى شؤون المنزل بعد ان أتمت تعليمها الجامعي في مجال الجغرافيا، والتي تبلغ من العمر 45 عاما وأم لثلاثة أطفال عن أولى خلافاتها مع زوجها التي تطورت لتتحول إلى عنف ثم إلى تهديد بالقتل، وتقول أن أول خلاف لها مع زوجها كان خلال شهر أفريل من العام المنقضي، حين اتصلت به مساء يوم لتطلب منه اقتناء الخبز للعشاء بعد ان أعدت حساءا في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأزمة خبز .
تقول ميلكة ” كانت ردة فعله في الهاتف حادة جدا إلى درجة انه شرع في شتمي وسبي باعتبار واني طلبت منه هذا في وقت متأخر وكان سبب شتمه لي هو طبيعة الطعام الذي اعددته والذي لا يمكن تناوله الا بالخبز.. وفي تلك الفترة كنت قد نسيت مسألة أزمة الخبز التي تعيشها البلاد وكان ذلك اليوم هو اول أيام شجاري معه “.
وتواصل مليكة ” منذ تلك اللحظة تبدلت طبيعة علاقتنا، لم أستطع أن أتحمل ذلك القدر من السب والشتم في سماعة الهاتف وكنت قد طلبت منه التوقف.. تعكرت علاقتنا من تلك اللحظة حتى صرنا نتشاجر على أشياء بسيطة، إلى أن وصل به الأمر إلى تهديدي بالقتل وكنت في كل مناسبة أترك المنزل وأذهب إلى عائلتي هروبا منه “.
تعرضت الأم مليكة إلى 5 عمليات تعنيف قبل أن تقرر العودة إلى منزل عائلتها هروبا من العنف، وتؤكد أنها بعد كل عملية عنف يتم ارجاعها إلى المنزل بعد اقناعها بضرورة المحافظة على تماسك العائلة باعتبار وأن توجهها إلى الطلاق في المحكمة سيؤدي إلى تشتيت العائلة وتفريقها.
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتغيرات المناخية من أسباب العنف والتقتيل للنساء؟
يعيش التونسيون منذ أكثر من عام على وقع ازمة اقتصادية واجتماعية وأزمة فقدان المواد الأساسية، وينضاف إلى هذه الأزمات ترد في قطاعات الصحة والنقل وهو الأمر الذي أصبح يفرز حالة من الضغط العام التي أثرت بدورها على طبيعة العلاقات الزوجية والعائلية وحتى الاجتماعية بحسب ما كشفه بعض الخبراء في علم الاجتماع.
بناء على ما سبق ومن وجهة نظره يقول الباحث في علم الاجتماع ورئيس الجمعية التونسية للباحثين الشبان حمدة كوكة في علم الاجتماع أن مؤشر العنف ضد المرأة ومسألة تقتيل النساء مرتبطة بعدة أسباب، وذكرأن أبرزها تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وحالة الضغط العام التي يعيشها التونسيون هي من ضمن الأسباب الرئيسة في ظهور العنف والجرائم من هذا النوع.
وقال كوكة أيضا ” نسبة كبيرة من قضايا العنف والتهديد بالقتل المرفوعة لدى المحاكم من طرف النساء بأزواجهن تكون بداياتها بعجز الزوج عن توفير علبة حليب أو الخبز أو أشياء بسيطة.. ومنها أيضا ماهو متصل بخلافات أخرى لا ترتقي إلى ان تكون سببا في النقاش وكان من الممكن أن لا نسمع بهذه المشاكل في قاعات المحاكم لو كان المواطن يعيش الحد الأدنى من الرفاه”، وفق تعبيره.
ويشير رئيس الجمعية التونسية للباحثين الشبان في علم الاجتماع أيضا إلى مسألة انسداد الأفق لدى التونسيين الذي جعلهم سريعي التشنج والانفعال، ويرى بأن الاسباب لا تتوقف عند مسألة الوضع الاجتماعي والاقتصادي فقط وانما تتجاوز ذلك حتى إلى أسباب أخرى لا يمكن أن ننتبه لها كالتغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وما يقع تداوله في وسائل الاعلام المحلية والعالمية حول هذا الموضوع المهم وحالة التشاؤم التي يتم عرضها في تونس بخصوص الحرارة وأزمة المياه وغيرها التي جعلت التونسي يعتقد بأن العالم قد ينتهي أو أن الحياة ستصبح أصعب بكثير مما هي عليه الان.
ومن ضمن الأسباب التي أشار لها الخبير أيضا مسائل العيش داخل العالم الافتراضي والاستعمال المكثف للانترنت الذي قلل من فرص الحوار والتواصل بين أفراد العائلة خاصة وان الحوار يعتبر من ضمن الركائز الرئيسية التي من شأنها أن تحل كل الاشكاليات، مؤكدا في الوقت نفسه عن دور بعض المحتويات المصورة والمسلسلات التي تتضمن محتويات تعنيف للمرأة.
واختتم الخبير حديثه بالقول ” الأسباب التي يمكن أن نقارب بها هذه الظاهرة كبيرة ومتنوعة ويبقى الحل الوحيد للحد منها هو اعتماد استراتيجية وطنية تتدخل فيها كل المؤسسات من أسرة إلى مدرسة ودور ثقافة ومجتمع مدني ومنظمات لتغيير تلك الصورة الراسخة في الاذهان خاصة وأنه تبين بأن قانون تجريم العنف ضد المرأة لا يمكن أن يكون كافيا للحدث منها”.
هكذا هي وضعية المرأة التونسية اذا، رمز شامخ لكل نساء العالم، لكن ربما تتحزل أيقونتها بهذا المعدل العالي من التعنيف والتقتيل إلى مربع سجني تنال فيه قدرا من الحرية عن غيرها، لكنها تبكي وترثي، تلك الأم رفقة الشارني التي قتلت بأربع رصاصات وسائر النساء الاخريات اللاتي تعرضن للقتل دون أن تحسم العدالة في ملفاتهن ، وضعية تختزل في الصور المهترئة والمعلقات الموضوعة على عدد من الجدران وعلى وسائل النقل العمومي والتي تحمل شعارات ” اسمها رفقة الشارني” و ” أنا الضحية القادمة”.