تتواصل وتيرة التنبيهات من طرف الخبراء في مجال المياه وسط الأزمة التي تعيشها تونس منذ أكثر من سنتين، أزمة تمظهرت في تراجع الموارد المائية بسبب التغيرات المناخية التي يشهدها العالم أجمع وبسبب الارتفاع الغير مسبوق في ارتفاع درجات والحرارة والمرفوق أيضا بتراجع معدل التساقطات وعديد الاشكاليات الأخرى على غرار تردي البنية التحتية للسدود.
في هكذا اطار ووضعية، أصبح الحديث عن ترشيد استهلاك المياه في تونس والمضي قدما في سياسيات عامة أمرا ضروريا لحلحة أزمة هذا النقص الكبير الذي قد يهدد حياة المواطن في المستقبل مع التغيرات المناخية المسجلة، سواء تعلق الأمر بالاستهلاك اليومي أو الزراعي.
نصيب الفرد من الماء.. تراجع غير مسبوق في تاريخ تونس
بحسب قاعدة البيانات المتاحة على المنصة الرسمية للبنك الدولي فان نصيب الفرد من المياه شهد تراجعا كبيرا من تسعينيات القرن الماضي إلى حدود عام 2020، فبحسب الاحصائيات الموجودة فان نصيب الفرد الواحد من المياه العذبة في تونس تراجع من 990.00 متر مكعب خلال سنة 1961 إلى حدود 345 متر مكعب سنة 2020، ليكون بذلك هذا التراجع مفزعا إلى حد ما.
في سياق أخر، تؤكد العديد من المؤشرات ان التعامل مع الموارد المائية المخصصة للقطاع الفلاحي وبالتحديد للزراعات السقوية الموجهة للتصدير طيلة عقود تسبب في إيجاد فلاحة أحادية مستنزفة للتربة والموارد المائية على حساب الاحتياجات الداخلية الوطنية وعلى حساب المنتوجات التي تحتاجها السوق المحلية.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد الى عدد كبير من الزراعات أهمها القوارص والتمور وزيت الزيتون، حيث تؤكد البيانات أن إنتاج القوارص والذي بلغ سنة 2019 زهاء 440 ألف طن احتاج قرابة 320 مليون متر مكعب من المياه، نفس هذه الكمية قادرة على تغطية 20 بالمائة من حاجيات البلاد من الحبوب كما تبين معطيات عديدة أن التشبت بهذا المنهج خلال سنوات طويلة أدى إلى خسائر كبرى.
الخضروات والبطيخ.. استنزاف خطير للموارد المائية
بناء على ما سبق وعلى أبواب حلول فصل الصيف وانطلاق الفلاحين في زراعة بعض الفواكه منها البطيخ وبعض الخضروات الأخرى التي تعتبر من ضمن أكثر الزراعات استهلاكا للمياه على عكس الحبوب، في هذا الإطار لفت الخبير المائي سليم الزواري أن كيلو الخضروات المتنوعة في تونس يكلف انتاجه حوالي 400 لتر مكعب من المياه.
وأضاف الزواري أن هذه الزراعة تعتبر من ضمن الانشطة الزراعية المهمة في تونس، حيث يعتبر البطيخ من المحاصيل المهمة التي تسهم في اقتصاد البلاد وتوفير فرص العمل، وتعتبر البيئة التونسية ملائمة لزراعة البطيخ بفضل الظروف الطبيعية المناسبة من حيث الأراضي الخصبة والمناخ المعتدل وهي زراعات سقوية بامتياز.
وبحسب التقارير التي نشرتها منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، يتراوح إجمالي احتياجات البطيخ من المياه خلال فترة النمو بأكملها من 400 إلى 600 ملم، ما يعني أن هذه الزراعة تستهلك كميات كبيرة من المياه إذ يعتمد نجاح زراعة البطيخ على توفر المياه بكميات كبيرة خلال فترة النمو والإنتاج.
وتعتمد كمية المياه التي يستهلكها البطيخ الأحمر على عدة عوامل، بما في ذلك نوع التربة، وظروف الطقس وتقنيات الري المستخدمة وحجم الثمار ودورة حياة النبات، حيث يعتبر البطيخ الأحمر من النباتات المائية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الماء لنموه وتطور ثماره.
وأشارت دراسة أجريت في عام 2014 تحت عنوان ” تأثير إدارة المياه على الغلال والخضروات الصيفية وحالة مياه التربة في إطار الري بالتنقيط” إلى أن البطيخ الأحمر يمتص حوالي 60-80 سم من الماء أثناء فترة نموه، ويمكن أن يكون الاستهلاك أعلى في ظروف الحرارة الشديدة أو في التربة ذات التصريف السيء.
في ذات الاطار أشار بحث آخر نشر في عام 2016 تحت عنوان ” تأثير مستويات الري المختلفة على نمو وكفاءة استخدام المياه للبطيخ في ظل المناخ شبه الاستوائي” إلى أن البطيخ الأحمر يحتاج إلى ما يقرب من 600-800 ملم من الماء خلال فترة نموه وتطور ثماره. هذه الدراسات تؤكد على أن البطيخ الأحمر يستهلك كميات كبيرة من الماء، ولكن يجب مراعاة العوامل المحيطة به لتحديد الكمية الدقيقة التي يحتاجها.
وتشير أيضا دراسات عدة إلى أن البطيخ الأحمر يستهلك كميات كبيرة من المياه، خاصة في المناطق التي تشهد ارتفاعًا في درجات الحرارة، ففي دراسة نُشرت في مجلة البستنة والفلاحة في عام 2020، وجد الباحثون أن تقنيات الري الحديثة مثل الري بالتنقيط يمكن أن تساهم في تقليل كمية المياه المستخدمة في زراعة البطيخ الأحمر وتحسين كفاءة استخدام المياه.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت دراسة أُجريت في عام 2019 ونُشرت في مجلة البستنة العالمية أن استخدام التقنيات المحمية مثل البيوت البلاستيكية يمكن أن يحافظ على رطوبة التربة ويقلل من تبخر المياه، وبالتالي تقليل استهلاك المياه لزراعة البطيخ الأحمر، بالنظر إلى هذه الدراسات، يبرز أهمية استخدام تقنيات الري الفعالة والمستدامة في تحسين كفاءة استخدام المياه وتقليل تأثير زراعة البطيخ الأحمر على الموارد المائية.
بناء على ما سبق وبحسب التحاليل كلما ارتفعت درجات الحرارة كلما زاد استهلاك الماء بالنسبة للبطيخ وهذا يعني أن هذا النوع من الزراعات قد يشكل استنزافا تاما للمياه خاصة في مناطق الجنوب الشرقي بالبلاد التونسي التي تشهد انتشارا لمزارع البطيخ.
الحبوب في تراجع والخضروات والبطيخ في ارتفاع
ومع تزايد الضغوط على الموارد المائية في تونس في انتاج القوارص والزيتون، فإن استهلاك المياه لزراعة البطيخ يثير قلقاً بالنسبة للاستدامة البيئية والاقتصادية، ففي هذا الاطار يشير الفلاح بشير بن محمد من ولاية مدنين أن العديد من الفلاحين في الجهة مضوا في انتاج البطيخ بمختلف انواعه وعديد الخضروات الأخرى خلال العشر سنوات الاخيرة وتراجعت مع ذلك وبنسبة كبيرة زراعات بعض الحبوب مثل ” الدرع “.
وأشار الفلاح ” من المهم الاشارة اليوم إلى أن مزراع البطيخ الكبيرة تكلف الكثير من المياه إلى درجة أن عمليات السقي قد تستمر على مدار الـ 24 ساعة لمدة أكثر من شهرين وهذا أمر مكلف للغاية بحسب ما لاحظته “.
وتابع بشير ” اليوم هناك ظاهرة جديدة بدأت تنتشر بكثافة وهي الابار العشوائية التي باتت موجودة في كل مكان والزراعات التي انتشرت بكثافة وقد لاحظنا أن منسوب المياه الجوفية تراجع كثيرا مقارنة بالسنوات الفارطة، إذ كنا نتحدث عن مستوى مياه في حدود 26 متر واليوم صرنا نتحدث عن أبار بعمق 60 و 80 مترا بعض المناطق وأكثر من هذا بكثير ” .
البصمة المائية للمردود الفلاحي في تونس
بحسب الأرقام فإن تواتر الأمطار هذه السنة يفوق السنة الماضية، غير أنه ومقارنة بمعدل السنوات الأخيرة هناك نقص بحوالي 130 مليون متر مكعب وهو ما يترجم مواصلة تطبيق نظام القطع الدوري للمياه كما أن مخزون السدود بلغ إلى غاية تاريخ 12 مارس 2024 حوالي 864 مليون متر مكعب أي بنسبة امتلاء تقدر بـ 37%، في حين كانت في حدود 744 مليون متر مكعب خلال نفس التاريخ من السنة الماضية أي بنقص يقدر بـ120 مليون متر مكعب.
في نفس الإطار صرح خبير المياه حسين الرحيلي لموقع تونيبيزنس أن البصمة المائية للإنتاج الفلاحي في تونس قدرت بحوالي 16.6 مليار مليمتر مكعب و70% من هذه المياه في الشمال والشمال الغربي
معطيات الاستهلاك غير متوفرة والدولة تقدم مصلحة رجال الاعمال و التصدير على حساب الثروة المائية
من جهته كشف الخبير في المناخ حمدي حشاد في تصريح خاص لـ ” تونيبيزنس ” أن السلطات التونسية لم تقدم أية معطيات أو أرقام حول كميات المياه التي تستلكها مثل هذه الزراعات”.
وكشف حشاد في ذات الإطار أن أكثر الزراعات والغراسات التي تستهلك قدر ضخم من الموارد المائية هي أشجار القوارص وخاصة الزياتين التي تستأثر نسبة كبيرة من الموارد المائية.
وتحدث حشاد أيضا في نفس الاطار على أن عديد الزراعات التي تمارس في تونس اليوم مخالفة لكل المعايير التي وضعتها المنظمات العالمية خاصة وأن تونس تعاني من أزمة في الموارد المائية.
وقال الخبير في هذا الصدد بأن عديد المستثمرين في القطاع الفلاحي جاؤوا الى تونس بعد أن وقع منعهم من عديد الزراعات في بعض الدول الأوروبية نظرا لانها تستنزف الموارد المائية في حين أنها اصبحت تمارس في تونس سواء في قطاعات القوارص أو الزواتين.
وحذر الخبير في هذا الصدد أيضا من تفاقم ظاهرة الأبار العشوائية التي باتت منتشرة في البلاد، معتبرا بأن الاجراءات التي اتخذتها السلطات التونسية للحد من هذه الظاهرة بطيئة التطبيق وهو ما يؤكد التراخي وتقديم مصلحة رجال الأعمال والتصدير على حساب الثروة المائية في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها تونس.
وأضاف حشاد دول مثل إيطاليا فعلت إجراءات جديدة للحد من الزراعات السقوية فمثلا إيطاليا في محاولة لترشيد زراعة الطماطم التي تستهلك كم هائل من المياه حاولت ترشيد في إستهلاك المياه لهذه الزراعات، الأمر الذي أدى إلى هروب المستثمرين من إيطاليا وإسبانيا واللجوء إلى تونس لإستكمال تجارتهم بالرغم من أن وضع البلاد المائي أسوء من هته البلدان.
وبخصوص الاستراتجيات التي اتخذتها الدولة صرح حمدي حشاد أن الإجراءات موجودة إلا أن نسق تطبيقها بطيء للغاية وذلك لأسباب عديدة لعل أبرزها عدم تطبيق الفلاحين لقرارات الدولة مقابل قيامهم بحفر ابار غير قانونية كما أن الدولة غيرصارمة في تطبيقها للقوانين التي وضعتها، وهو ما يؤكد التراخي مع تقديم مصلحة رجال الاعمال و التصدير على حساب الثروة المائية في ضل ما نشهده من ظروف مائية صعبة.
ومع استهلاك البطيخ الأحمر لنسبة كبيرة من المياه تستهلك بقية الزراعات كميات هامة هي الأخرى فلإنتاج طن من الحبوب نستهلك 2500 متر مكعب والتمور 5000 متر مكعب ولزراعة اللوز يستعمل 20 ألف متر مكعب من المياه، وهو ما يعني إعادة النظر في خارطة الإنتاج الفلاحي وربط انتاج المنتجات الفلاحية بنوعية التربة وتوفير المناخ والموارد المائية.