ربما لنا الفن كي لا تميتنا الحقائق فعلا، باعتباره ذلك الفضاء الوحيد الذي نسير إليه خشية من القلق الذي يعترضنا في أيامنا العادية التونسية، نعم هروبا من الحقائق نلجأ الى الفن.
ربما تنقلب المعادلة تماما بمجرد أن نشرع طول حياتنا في الهروب الى الفن بدل الحقائق، وربما يغيبنا الفن عما نعيشه في حيواتنا اليومية ويذهب بنا بعيدا عن هذا العالم، والى عالم مواز يتحول فيه الإنسان الى كائن يعيش على الأوهام.
ربما أيضا تحولنا في تونسنا الفسيحة، منبع الانتاج الفني، الى كائنات تفر من الواقع الى سينما أو دراما لا تعكس مما نعيش شيئا، تحاول باستمرار إقناعنا بموضوعات لا ترتبط بما نعيش وما نفكر بتعلة أن لنا فنا يذهب بنا بعيدا عن الحقائق الموجعة.
ربما أيضا في تونس يتم توظيف مقولة نيتشة هذه لنشعر لحظة أو خلسة بأن الفن يجب أن يتناول موضوعات لا صلة لها بالواقع، منفصلة تماما أو موضوعات تذهب بنا الى واقع غير موجود تماما، أو وهم يدعي بأنه يدفعنا الى الاعتراف بالآخر المخالف تماما والمختلف سواء جندريا أو دينيا والحال أنه يعيش كما نعيش، وحتى ان كان اقل فان الطرح في معظم الأحيان قد يكون سخيفا الى حد ما.
” موش في ثنيتي” والحاجة الى الحقيقة !
في خضم هذا الزخم الفني، تشهد الساحة الفنية التونسية مولودا فنيا جديدا يوقظ كل الضمائر من حالة الضياع الذي نعيش ويدعونا معا الى اعادة التفكير في السبيل الذي نختار، أو بالأحرى في ” الثنية ” التي لطالما فكر فيها سائق سيارة التكسي وما فكرناها نحن، تلك الطريق التي لطالما بحثنا عنها في الاخر السياسي والثقافي والاجتماعي وفتشنا عنها في كل مكان.
“موش في ثنيتي”، بداية جيدة لفيلم تونسي طويل من إنتاج المخرج نبيل بركاتي، وهو رؤية جديدة تختزل الكثير من الفوضى والضياع، ضياع طال التونسيين على مدار أكثر من 10 سنوات، ضياع كان في المقاهي والشوارع وفي كل الفضاءات محكوما بالوجع والألم والضحك والبكاء والامل واليأس.
تدور أحداث الفيلم حول “سلطان بن العربي بن الطاهر بن عاشور”، بطل يعيش في شوارع تونس القديمة، تمثل قصته الفريدة نموذجًا للمواطن العادي المهمش، الذي ينعكس فيه صراع المجتمع وتعقيداته السياسية والاجتماعية وهو سائق التاكسي الذي يعمل ليلاً في محاولة جادة لتأمين معيشة أسرته، في انتظار قدوم مولوده الجديد مع زوجته “رابعة”.
في ليلة رأس السنة لعام بين عامي 2010 و 2011، تتقاطع حياة سلطان مع حياة مجموعة من الركاب، كل منهم يحمل قضايا اجتماعية وسياسية وفلسفية معقدة، وتعقد الأمور عندما يورط سلطان نفسه في مأزق مع امرأة غامضة تطلب منه قتل زوجها الخائن، ليكتشف لاحقًا ملفًا خطيرًا يحوي مخططات لتدمير البلاد.
تتشابك الأحداث في هذا العمل الفني بشكل غامض مع وفاة زوجته، وينتهي به الأمر في مستشفى الأمراض العقلية، حيث يُعتقل ويُعذب لمدة 14 عامًا، ومع تسارع الأحداث في العمل يقر المنتج بأن العدالة لا تنام حيث تأخذ مجراها بكشف الحقيقة ومعاقبة الجناة الحقيقيين، وبالتالي تبرئة سلطان من التهم الملقاة عليه وكشف الحقائق المظلمة التي كانت خلف الستار.
حبكة فوضوية مقصودة في العمل !
بناء على الحبكة، تأسس العمل على عبارة ” موش في ثنيتي” وهي عبارة تتردد على أذهاننا يوما بعد يوم وفي كل أنحاء العاصمة وضواحيها وربما حتى في بعض الجهات، العبارة التي تركت آلاف التونسيين في الطريق العام، أثناء رحلات بحثهم اليومية عن سيارات التكسي الفردي ليبلغوا مرادهم اليومي من منازل ومحلات عمل ومؤسسات وشركات.
موش في ثنيتي، ربما هي أيضا العبارة التي أراد بها المخرج أن يسوق رسالة مهمة في خضم هذه السنوات التي مضت بعد 2011 والى اليوم، والتي ينعتها البعض بالسوداء وأخرون بالانتقال أو التحول الديمقراطي وأخرون يرفضون الاعتراف بهذه وتلك مقرين بأن “الثنية” الوحيدة للنجاح هي الهجرة.
بعيدا عن الأحكام وبالعودة على فحوى هذا العمل ومضمونه، تمحيصا وتدقيقا، يبدو من الواضح أن العمل يتضمن حالة من الفوضى المقصودة، من المشاهد والأضواء، إلى الشخصيات المركبة بتراكيب غريبة وعجيبة ومنها الشابان المتدينان” سيف” و”مخلوف” اللذان يوازنان بين هوية المتشدد ولا يستطيعان تحمل ما يحملان من هوية فيعملان على تبرير شهوتهما بما يتبعان أو ” مدام عواطف ” التي تحمل هوية أحد السياسيين في تونس الى ” ايمان ” التي تعكس فئة مهمة من التونسيات اللاتي كنا يشتغلن خطط وظيفية ضمن النظام المنتهية عهدته.
تعدد وتنوع في الشخصيات كان يعكس ما يكفي من الفوضى المعبرة، زد عليها القدر الكبير من الكوميديا السوداء والهزل اللذان أريد بهما طرحا جريئا جديدا لقضية التونسيين الذين تحركوا خلال سنة 2011 وأرادوا تغيير ما يكفي من أوضاع فوجدوا أنفسهم ضحايا مؤامرات ومصالح وفي حالة من الفوضى والجنون التي يمكن أن تضعهم داخل قضبان المشافي العقلية.
في خضم العمل، يتنقل البطل سلطان في العمل بسياراته في أزقة وأماكن عديدة بالعاصمة، ليختلط بأعداد كبيرة من الركاب، منهم العاطل عن العمل والمعطل ومنهم التائه في خياراته السياسية والاجتماعية ومنها الداعي الى أيديولوجيا سياسية، وتكون معظم التوصيلات التي يؤمنها عبر سيارته مختومة بالفشل، كأن يكون المتنقل خارج حدود طريقه الذي يقصد أو يكون ذا جاه أو غير جاد في وقت ما.
بالرغم من كل ذلك يواصل سلطان في اختيار أشخاص جدد ليؤمن بتلك الرحلات القصيرة مستقبل ابنه الذي سيولد بعد ساعات بأحد المستشفيات في العاصمة، ليلة الدخول في سنة ادارية جديدة يدعو الجميع أن تكون أحسن من سابقتها، الى أن يسقط في مربع الاغتيال ويكون مجرما بسبب أحد الزبائن التي التقاها في الطريق العام، يموت ابنه وزوجته عند الولادة ويجن ويجد نفسه مورطا في التقل ويحظى بالعدالة والتبرئة بعد أن خسر كل شيء.
تتداخل المشاهد والأحداث في بعضها البعض، حتى تشكل مشهدا من الفوضى المختلطة بالدراما والحزن والقلق والهزل، وتتشكل في الختام ملامح الوضع العام الذي عاش عليه التونسيون بعد 2011، وهو الولادة الميتة لابن سلطان وهي نفسها ولادة ثورة أو تغيير ميت، وولادة ميتة للاخلاق والسياسية والثقافة والمجتمع ونتيجة حتمية لعبارة يكررها سواق التكسي الفردي في تونس يوميا للناس، عن عبارة ” موش في ثنيتي” نتحدث.
نعم بحسب هذه الوضعية، وبناء على القراءة خلال العرض، يشير العمل الى أن الوضع العام الذي يعيشه التونسيون مبني على زخم عال وفوضى غير مسبوقة، فبناء على تاريخ تونس بعد 2011 تبدلت معالم المجتمع وتضاعف الضغط على شتى الاصعدة، لم تكن هناك لا مكاسب اجتماعية ولا اقتصادية ولا سياسية، لينتهي السبيل بالتونسيين الى مسار غير معلوم الى حد اللحظة.
أو ربما بالعكس تماما، تواصلت فوضى السياسة التي ظهرت في البرلمان بين من يعارض كل الخطوات تجاه التقدم ومن يفشل في تحقيق الانجازات بتعلة أن هذا الاخير يعارض، لتتداخل المشاهد في بعضها البعض بين وسائل اعلام لا تكف عن نشر المضامين الرديئة ويتواصل معها الفساد ليحول دون أي عدالة اجتماعية.
ولادة ابن سلطان ميتة في العمل لا تختلف كثيرا عن مولود الديمقراطية في تونس، فلئن عاش التونسيون 10 سنوات على وقع بعض المكاسب من حريات في التعبير فإن هذه المكاسب زالت تماما مع حلول لحظة ظهرت فيها تشريعات شديدة الوقع على مختلف الفئات المعبرة عن رأيها.
أبعاد فنية تتجاوز الظاهر والسطحي في العمل
لم يقتصر فيلم “موش في ثنيتي” الذي يمزج بين الكوميديا السوداء والواقع السياسي في تونس على كونه مجرد إنتاج سينمائي مشابه لمختلف المضامين المنجزة في سابق الأوقات، بل هو رحلة متعددة الأوجه عبر أبعاد مختلفة من الحياة الاجتماعية التي تمظهرت في شخصيات الحاضرين والسياسية التي انعكست في مدام عواطف.
اعتمد الفيلم بشكل كبير على الرمزية والإسقاط، كأساليب للتعبير الفني، ما يسمح له بتسليط الضوء على الحقائق المظلمة والتحديات التي تواجه الشعب التونسي خلال الـ 10 سنوات الفارطة.
وتعكس أحداث الفيلم بواقعية صادمة الصراعات السياسية والاجتماعية المستمرة، مثل الفساد، والانقلابات، والغموض الذي يكتنف السياسة والنظام البائد الى حد اللحظة.
يقول نبيل بركاتي مخرج العمل ” موش في ثنيتي ليس مجرد سرد لحكاية شخصية، بل هو توثيق للأحداث التاريخية التي شكلت الوجدان التونسي، وتسليط الضوء على الجهود المستمرة لتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الظلم.. يقدم الفيلم رؤية فنية فريدة تمزج بين الخيال والواقع، لتعزيز التفاعل النقدي والتفكير العميق في مستقبل تونس ومسارها التاريخي”.
ويتابع المخرج الشاب ” بالاستناد إلى هذا الأسلوب السينمائي المبتكر، يسلط العمل الضوء على تلاحم الفن والسياسة كأدوات للتغيير الاجتماعي، وكيف يمكن للفن أن يكون رافعة للصوت الشعبي ونافذة تفتح على الواقع المعاصر بكل تعقيداته وتحدياته”.
بناء على القصة المنكشفة صلب العمل، تنتهى رحلات سلطان الليلية بجنون واتهامات خطيرة، وبفشل فادح في العيش والحياة، ولربما هو تماما ما يعيشه التونسيون اليوم في كل مكان، موت ثورة طالبوا فيها العدالة والتشغيل واتهامات ومعاناة وهلع في صفوف كل الناس واندثار تام للطبقة الوسطى، والى الان يعيش التونسيون على أمل أن تتحقق عدالة سلطان رغم الهلع والوجع.