بعد مرور سنتين على إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد عن الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية 2021، رافق هذه الإجراءات قرار تجميد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وهي الهيئة التي تهتم بحماية المبلغين عن الفساد في تونس، الذين يبلغون عن مختلف الانتهاكات في مؤسسات الدولة التونسية ومختلف هياكل الدولة التي كان من المفترض أن تخدم الصالح العام في البلاد.
حتى الآن، يعاني قيس لهمندي البالغ من العمر 50 عامًا، من آثار التهديد والابتزاز الذي تعرض له بعد رصده لمجموعة من الملفات الخطيرة، والتي تسببت في ارتفاع ضغط الدم وقصر الكلى لديه. كما فقد ثقته في المسؤولين بسبب عمليات التهديد والابتزاز التي طالت عائلته، حسب تعبيره.
في شهر جويلية 2023، قرر المبلغ قيس التوجه إلى العاصمة تونس من محافظة المنستير سيرًا على الأقدام لمسافة تبلغ حوالي 170 كيلومترًا، لينقل رسالة إلى جميع التونسيين بأن مصير المبلغين في تونس أصبح في أصعب الظروف، خاصة بعد أن تم حرق سيارته أمام منزله والاعتداء عليه.
وصل قيس إلى العاصمة في أيام شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في درجات الحرارة في تونس، وتعرض لوعكة صحية بعد يوم واحد من المسيرة، نُقل على إثرها إلى المستشفى، في انتظار انتباه رئيس الجمهورية لمسيرته الطويلة بعدما فقد ثقته بكل المسؤولين في المنطقة والبلاد.
يوثق هذا التحقيق عدداً كبيراً من الانتهاكات التي طالت المبلغين عن الفساد في تونس، وأبرز أساليب الاضطهاد والعنف التي تعرضوا لها خلال السنوات الماضية، والوضعية الصعبة التي يعيشونها اليوم، خاصة بعد تجميد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وإغلاق مقرها، وذلك بقرار من رئيس الجمهورية.
تاريخ المبلغين عن الفساد في تونس.. متى انطلقت الدولة في التشريع لحماية هؤلاء؟
على مر التاريخ، ارتبط مفهوم التبليغ عن الفساد في تونس بمسألة صناعة الجواسيس خاصة في فترة ما قبل الثورة، وتحديداً خلال فترة النظام السابق في عهد الرئيس التونسي زين العابدين، حيث كانت السلطة تنشئ الجواسيس عبر إنشاء رقم أخضر “مجاني” ليتمكن المواطنون التونسيون من الإبلاغ عن أي عصيان مدني أو انتهاك يتعارض مع خطوط السلطة.
في هذا الاطار يقول أستاذ الفلسفة التونسي خليفة السكرافي “لطالما ارتبط مفهوم التبليغ خلال حكم بن علي بصناعة الوشاة الذين كانوا يلعبون دورًا كبيرًا في مراقبة أي سلوكيات تتعارض مع خطوط السلطة العريضة، والتي ترتبط عمومًا بحريات التفكير والتعبير وغيرها.”
لم تدعم هذه الفكرة لدى عامة التونسيين كثيراً حتى جاءت الثورة في عام 2011. ورغم النتائج السلبية اقتصادياً واجتماعياً، كانت هناك بعض المكاسب مثل حرية التعبير والتفكير، والأهم من ذلك كان ضمان حق التبليغ لمختلف الأشخاص الذين قد يرصدون انتهاكات تؤثر على المصلحة العامة.
استجابة لذلك، جاء دستور 14 جانفي 2011 بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي تتفاعل مع مختلف المبلغين في جميع أنحاء تونس، وتسلم الملفات التي تتضمن انتهاكات من قبل مسؤولين في الوزارات والمؤسسات العامة والهياكل الإدارية والتجارية.
دور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لا يقتصر على استلام الملفات فقط، بل يتجاوز ذلك لإحالة هذه الملفات إلى السلطة القضائية للنظر فيها ومعاقبة المتورطين. كما تعمل الهيئة على حماية المبلغين من التهديدات والاعتداءات وضمان حقوقهم المادية والمعنوية، بما في ذلك الحماية من الفصل من العمل أو الضغوطات الأخرى.
في أعقاب الثورة، تأسست لجنة تقصي الحقائق للتحقيق في أحداث الثورة والفترة التي سبقتها وتلك التي جاءت بعدها، وقد تم جمع معلومات عن الفساد والرشوة خلال عهد بن علي في جميع أجهزة الدولة، بما في ذلك القطاعات العقارية والزراعية والمشاريع الكبرى والاتصالات والقطاع المالي والديوانة والجباية والقضاء والمحاماة.
انتهت لجنة تقصي الحقائق من عملها بتقديم تقريرها النهائي في 11 نوفمبر 2011، وأحالت أكثر من 11 ألف ملف فساد على مختلف المحاكم في جميع أنحاء تونس، في 24 نوفمبر 2011، تأسست الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كهيئة دائمة لمتابعة تقصي الفساد.
تم إنشاء الهيئة الأولى بموجب المرسوم رقم 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011، لتحل محل لجنة الحقائق والتقصي، وتستمر الهيئة في رصد الانتهاكات وتحويلها للقضاء، بغية تحقيق العدالة وضمان الشفافية والحكم الرشيد في تونس.
وبناء على طبيعة نظام الحكم في تونس وطبيعة دستور البلاد الجديد الذي ينصص على ارساء برلمان، تم بعد أول انتخابات برلمانية تشهدها البلاد ارساء لجنة مكافحة الفساد صلب البرلمان الناشئ وقتها والذي كان ينظر في تقارير الهيئة ومختلف الملفات ويستقبل شكاوي البلغين.
وتم خلال سنة 2017 احداث اللجنة المشتركة لاسناد قرارات حماية المبلغين بين كل من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ورئاسة الحكومة، واحدثت هذه اللجنة بمقتضى مقرر صدر عن الكاتب العام للحكومة بتاريخ 26 جويلية 2017.
بالأرقام.. أكثر من 800 مبلغ عن الفساد خارج خيام الحماية !
انطلاقا من أواخر سنة 2011 ومع اعلان السلطات التونسية تشكيل هيئة مكافحة الفساد تعمل بصفة متواصلة على مكافحة الفساد بمختلف ولايات الجمهورية، أقبل عدد كبير من الموظفين بالادارات التونسية للتبليغ عن مختلف الانتهاكات المرصودة صلب المؤسسات العمومية للدولة خاصة وأن الهيئة كان من المفترض أن تضمن لهم حقوقهم في الحماية والتعويض هذا بالاضافة إلى مكافأة تحفزهم على الابلاغ عن أي انتهاك يمكن أن يقع صلب الادارة أو الهيكل الذي يشتغلون فيه.
وبالعودة إلى أبرز الاحصائيات والأرقام والمعطيات المتعلقة بعدد المبلغين عن الفساد وتوزعهم على مختلف ولايات الجمهورية التونسية، كنا قد تقدمنا بتاريخ 14 جويلية 2023 إلى رئاسة الحكومة بمطلب تمكيننا من هذه الارقام إلى أن رئاسة الحكومة اعلمتنا بعدم توفر هذه المعطيات وفيما يلي المطلب والرد :
في لقاء خاص مع مصدر كان يشتغل صلب هيئة مكافحة الفساد، كان قد اعلمنا أن عدد المبلغين عن الفساد في تونس تجاوز بحسب ما كشفته التقارير وبناء على مطالب الحماية المقدمة خلال سنة 2018 بالتحديد 167 مبلغا، وأكد المصدر ذاته الذي رفض الكشف عن هويته ان مختلف المبلغين يعيشون اليوم تحت طائلة التهديد ودون توفر ادنى شروط الحماية، وأضاف ان عددا مهم منهم تعرضوا إلى الفصل عن وظائفهم ويتعرضون إلى اليوم إلى التهديد والابتزاز، وفق تقديره.
وواصل محدثنا القول ” للأسف.. الهيئة كانت تشتغل بناء على التشريعات القانونية التي وقع سنها وانطلقت في حماية المبلغين وقبول مطالبهم لتأمينهم في فترة متأخرة خاصة وأن أن القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 يتعلق بالابلاغ عن الفساد وحماية المبلغين صدر بداهة خلال سنة 2017 “.
في المقابل كشفت التقارير التي نشرتها منظمة أنا يقظ عبر موقعها الرسمي ان عدد المبلغين عن الفساد في تونس تجاوز الـ 1000 مبلغ خلال الفترة الزمنية الممتدة ما بين سنتي 2016 و 2020، ما يعني هذا ان الرقم الذي ذكره المسؤول صلب الهيئة يختزل فترة زمنية محددة كما انه لا يشمل كل المبلغين المذكورين.
وأشارت المنظمة في نفس التقرير إلى أن نسبة التبليغ خلال الفترة شهدت ارتفاعا مهما خلال سنة 2018 بعد أن بلغ عدد المبلغين للمنظمة 275 شخصا ليتراجع خلال السنوات التالية، وبناء على التبليغات التي تلقتها المنظمة خلال 4 سنوات فان نسبة التبليغ قدر نموها بنسبة 48 بالمائة.
وبالعودة إلى الاحصائيات التي كشفتها مختلف التقارير التي تمكنا من الوصول اليها سواء من الهيئة أو منظمات المجتمع المدني، كان في أغلب عمليات التبليغ عن الفساد يسجل حضور الذكور أكثر من النساء، وفي تقريرها السنوي فسرت منظمة أن يقظ هذه المسألة بأنها جراء الضغوطات التي قد تتعرض لها المرأة التونسية في عملية التبليغ عكس الرجل، وفق التقرير.
وخلال خلال سنة 2016 مثلت نسبة الإناث 5/1 وهي نسبة مماثلة لنسبة الأشخاص الذين إمتنعوا عن كشف جنسهم أثناء عمليات التبليغ أما نسبة الذكور فقد بلغت ضعف نسبة النساء اي 5/2 وهي نفسها النسبة تقريبا خلال سنوات 2019 و 2020، كما مثلت نسبة الأشخاص الذين امتنعوا عن كشف جنسهم خلال نفس الفترة 5/1 من مجموع المبلغين وهي نفسها نسبة النساء.
مثلت سنة 2020 سنة الكورونا بامتياز، وهي الفترة التي كانت الإستثناء في الإخلالات ما دفع العديد من المبلغين إلى الظهور والتبليغ عن جملة من الانتهاكات من قطاعات متعددة ومتنوعة.
وتوزع المبلغون عن الفساد في تونس بحسب ما كشفته التقارير على 4 قطاعات أو مؤسسات، حيث ظهرت نسبة التبليغ عن الفساد في الوزارات والمؤسسات العمومية في المستوى الأول بنسبة قدرت بـ 46 % وتأتي في الدرجة الثانية الجماعات المحلية بنسبة 25 % يليها القطاع البنكي بنسبة 10 % من جملة الانتهاكات المرصودة.
وتوزعت الملفات المرصودة خلال سنة 2020 حسب مظهر الفساد المعاين حسب النسب التالية، حيث تعلق 31.9 % من جملة التبليغات بفساد مالي أو إداري، وتحل التبليغات المتعلقة بإستغلال النفوذ في المرتب الثاني بنسبة 27.5 % فيما تحل في الدرجة الثالثة عمليات الاختلاس والرشوة والتحيل بنسبة 22 % وتعلقت 12.1 % من الملفات المودعة لدى منظمة أنا يقظ بالمحاباة وتأتي في الدرجة الأخيرة ملفات تضارب المصالح والاستيلاء بنسبة 6.6 %.
بناء على ما سبق يبدو أن أغلب الملفات المبلغ عنها تتعلق باختلالات بالمؤسسات العمومية والقطاع الذي ينضوي تحت الدولة التونسية، في هذا الصدد يشير البرلماني السابق العياشي زمال إلى أن كل الاخلالات ناتجة عن ضعف التشريعات القانونية التي من شأنها أن تحصن المؤسسة العمومية من الانتهاك أو التحيل وفي نفس الوقت تحمي المبلغ عن الفساد من التهديد والابتزاز والتعنيف.
ويدعو البرلماني السابق في هذا الصدد إلى ضرورة إرساء تشريعات قانونية جديدة تحمي بدرجة أولى المبلغين عن الفساد وتمكنهم من سلامتهم حتى يقوموا بواجب التبليغ، ثم تطبيق القانون وإرساء تشريعات كفيلة بإدانة أي إنتهاك ومنع وقوعه مجددا.
وأشار العياشي زمال في ذات السياق الى أن عديد السياسيين في تونس كانوا قد انتهجوا مسلك مقاومة الفساد لضمان عديد التمويلات من الخارج واستغلوها كشعارات دونما أي اجراءات ملموسة وجدية تم اتخاذها على أرض الواقع في اشارة الى العشر سنوات الفارطة التي مرت بها البلاد
بالعودة على أبرز المعطيات الاحصائية التي تمكنا من الوصول اليها، وباعتبار أن عدد المبلغين عن الفساد تجاوز 1000 مبلغا عملنا في هذا الصدد على رصد مختلف التبليغات عن الفساد التي شملت عام 2020، والتي تمكنا بحسب المعطيات الاحصائية من رصد توزعها على مختلف ولايات الجمهورية التونسية، وبناء على ما سبق فان محافظة تونس تحتل المرتبة الأولى من حيث نسبة التبليغات بمعدل 32 في المائة، ثم تليها محافظة سوسة بنسبة 7 في المائة لتأتي أريانة وتطاوين، وتأتي ولاية قبلي في المرتب الأخير بمؤشر 0 في المائة، وفيما يلي توزع المؤشرات على مختلف ولايات الجمهورية.
في هذا الصدد يقول المبلغ عن الفساد عصام الدين الفيتاتي ” لطالما لاحظت أن الانتهاكات التي تحدث في العاصمة هي أكثر بكثير من الانتهاكات التي يرصدها مبلغون في الجهات “، ويعتبر عصام أن من ضمن الأسباب التي نجمت عن هذا هي أن ظروف الحياة في العاصمة تكون أصعب من جميع الأصعدة ما يؤدي إلى انتشار الفساد أكثر بحسب توصيفه.
تحدث المبلغ عن الفساد بمحافظة المنستير قيس عيشة لـ ” تونيبزنس” عن وضعيته الحالية بعد فصله عن العمل منذ أكثر من 8 أشهر، وقال قيس” كنت في وقت سابق قد تقدمت بمطلب تمكيني من الحماية قبل أن يتم غلق مقر هيئة مكافحة الفساد، وتمتعت بالحماية في فترة زمنية معينة “.
وتابع قيس ” قبل سنتين وبعد أن ألغيت الحماية التي كنت أتمتع تم الاعتداء علي ووقع أيضا حرق سيارتي أمام مقر منزلي، إلى اليوم أتلقى التهديدات وأعيش تحت وضعية ضغط كبيرة.. بسبب التنكيل والتهديد تعرضت إلى وعكة صحية وأنا اليوم مهدد بالتصفية والقتل”.
هكذا يعيش عدد كبير من المبلغين عن الفساد في تونس، تحت طائلة التهديد والابتزاز خاصة مع غلق مقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتجميد أعمالها، وبالعودة إلى الاحصائيات المتعلقة باسناد قرارات الحماية، تقول الاحصائيات أنه خلال سنة 2021 وإلى حدود شهر فيفري تم تقديم 859 مطلب اسناد حماية لدى الهيئة، أي خلال شهري جانفي وفيفري، وقررت الهيئة تمكين 182 مبلغا من الحماية ورفضت 295 مطلب، وأفادت الهيئة أن مجموع المطالب التي مازلت بصدد الدراسة في تلك الفترة بلغت 382 مطلب، لتأتي من بعد ذلك قرارات الرئيس القاضية بغلق مقر الهيئة وتجميد أعمالها دون أن يقع الكشف عن مصير هذا العدد من المبلغين سواء الذين مكنتهم الهيئة من الحماية أو الذين مازالوا ينتظرون التمتع بقرارات.
في هذا الصدد تحدثت المبلغة هناء عياد، مبلغة عن الفساد بشركة تونسية متخصصة في البحث والتنقيب عن البترول عن الوضع العام الذي يعيشه المبلغون عن الفساد في تونس قائلة ” تقدمت في وقت سابق بمطلب لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والى اليوم أملك مجموعة من التقارير والوثائق التي تحتوي على مؤيدات كاملة في علاقة بما رصدته من انتهاكات لكن لم يقع تمكيني من قرار حماية إلى أن وجدت نفسي خارج المؤسسة التي كنت أشتغل بها “.
في سياق أخر، وبالعودة على الاحصائيات والتقارير التي كشفتها لنا مصادر سابقة صلب هيئة مكافحة الفساد خلال سنة 2018 تلقت الهيئة ورئاسة الحكومة 167 مطالبا باسناد الحماية لمبلغين عن الفساد، وتم على اثر ذلك تمكين 29 مبلغا من الحماية في حين وقع رفض 26 مطلبا، وأشارت الهيئة إلى أن مجموع المطالب التي وقع النظر فيها هي 55 في حين أن 112 مطلبا من مجموع المطالب المتقدمة لم تتوفر فيها أي معطيات عن مصيرها.
تعنيف وهرسلة تطال المبلغين والدولة تشاهد..!
تعنيف وهرسلة وفصل عن العمل وتهديد بالقتل، عبارات تتردد مرارا وتكرارا على السنة عدد من المبلغين عن الفساد في تونس في كل المناسبات، وخاصة مع انهاء دور الحماية التي كانت تلعبه الهيئة في الانصات إلى المبلغين والاستماع اليهم في أدنى الحالات وفي حمايتهم في أقصاها.
بالعودة على بعض المعطيات الاحصائية المهمة، وفي هذا السياق بالذات تقول الأرقام أنه تم قبل غلق مقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وخلال شهري جانفي وفيفري 2021 تقديم حوالي 29 شكاية من أجل التنكيل بالمبلغين عن الفساد لدى القضاء التونسي.
من جانب أخر وقبيل الشرع في الكشف عن جل الانتهاكات التي حدثت مع بعض المبلغين عن الفساد كشفت التقارير التي انجزتها الهيئة أن نسب تطبيق قرارات الحماية من طرف السلط المعنية لم تتجاوز حوالي الـ 30 في المائة، حيث وقع خلال شهر فبراير 2021 تطبيق 55 قرار حماية للمبلغين من جملة 182 قرارا تم اسناده خلال الفترة المذكورة وفيما يلي توزع القرارات التي وقع تطبيقها بحسب الهياكل والمؤسسات المعنية خلال الفترة الزمنية المذكورة.
بناء على هذه الارقام يمكن القول بأن المبلغين عن الفساد وخلال فترة ما قبل 25 جويلية لم يكونوا تحت الحماية المطلوبة باعتبار أن عديد القرارات المتعلقة باسناد الحماية والتي كانت الهيئة قد منحتها لم تكن مفعلة بحسب ما كشفت عنه الارقام.
في هذا الاطار أكد مصدر سابق من الهيئة رفض الادلاء به بهويته أن الهيئة كانت تقوم بدورها كما يلزم، لكن المشكل كان يكمن في عدم امتلاك الهيئة لاليات التنفيذ، وقال المسؤول ” لا يمكن للهيئة أن تفرض على أي مؤسسة تنفيذ قرار الحماية في حين ان المؤسسة المعنية ملزمة قانونا في تنفيذ القرار وبالتالي فالهيئة تقوم بدورها كما يلزم والتقارير تكشف ذلك “.
من جهة أخرى يعاني المبلغون عن الفساد في تونس إلى اليوم من الاضطهاد والهرسلة، ويرى البعض منهم أن هذه المعاناة كانت قائمة قبل اجراءات 25 جويلية وقبل حتى غلق مقر الهيئة، وبحسب الشهادات التي تمكنا من اجراء مقابلات معها أو التسجيل معها فان نسق الاعتداءات كان قد انطلق خاصة بعد 25 جويلية وبعد غلق مقر الهيئة وتجميد عملها.
تقدمت بشكايات وحاولت كشف الحقائق فوجدت نفسي محاكما على غير القضايا المذكورة
المبلغ قيس المهندي
في هذا الصدد تحدث المبلغ عن الفساد قيس لهمندي لـ” تونيبزنس” عن ما تعرض اليها من تهديدات وهرسلة وحتى اعتداءات، وقال لهمندي” بلغت عن ملف يتعلق بشبهات في صفقة اقتناء حاويات فوقع التنكيل بي من طرف الذين بلغت عنهم.. تقدمت بشكايات وحاولت كشف الحقائق فوجدت نفسي محاكما على غير القضايا المذكورة”.
وأشار المهندي إلى أن سيارته تعرضت إلى الحرق بعد أن رصد الاخلالات وبلغ عنها مشيرا إلى أنه يتلقى تهديدات بصفة وقتية ودونما نهاية، وكان لهمندي قد تحول خلال شهر يوليو المنقضي من محافظة المنستير إلى العاصمة تونس سيرا على الاقدام ولتبليغ رسالة إلى رئيس الجمهورية حتى يضع حدا للتهديدات التي يتعرض لها.
وقال الهمندي أيضا ” تعرضت إلى الهرسلة على مدار سنوات وتم ايداعي بالسجن ووضعي في زنزانة رفقة عدد من المتشددين حتى خشيت على نفسي وعلى عائلتي والى اليوم أعاني، خسرت عائلتي وزوجتي وأبنائي وأصبت بضغط الدم وبأمراض أخرى جراء ما تعرضت له “.
وأفاد الهمندي بأنه كان يتمتع بقرارات حماية خلال الفترة التي كانت الهيئة تعمل فيها لكن قرار الحماية انتهى مع غلق مقر الهيئة وتجميد أعمالها.
قضيت أكثر من سنة وأنا لا أتقاضى أي أجر في وظيفتي وتم طردي من مهنتي، حاولت الاتصال برئيس الجمهورية وعملت على تحريك الملفات بالوزارة لكن دون جدوى
المبلغة هناء عياد
في سياق أخر تعيش السيدة هناء عياد، مبلغة تونسية في مجال الطاقة كانت تشتغل في احدى المؤسسات التابعة للشركة التونسية للأنشطة البترولية دون راتب منذ أكثر من 8 أشهر، ويأتي هذا بعد أن تم فصلها عن العمل بسبب رصدها لمجموعة من الملفات صلب مؤسسة خاصة تتعامل مع المؤسسة المذكورة.
قالت هناء ” اليوم قضيت أكثر من سنة وأنا لا أتقاضى أي أجر في وظيفتي وتم طردي من مهنتي، حاولت الاتصال برئيس الجمهورية وعملت على تحريك الملفات بالوزارة لكن دون جدوى.. بل إن الوزارة وصلت في بعض الأحيان الى التستر عن الملف “.
وكشفت هناء لـ” تونيبزنس” وضعية المبلغين عن الفساد كارثية قائلة ” اليوم هناك زميلان أعرفهما بلغا عن الفساد يعيشون وضعية كارثية أحدهما تم فصله عن عمله وغير قادر على توفير ولو علبة دواء واحدة لوالده المريض والثاني تم فصله عن وظيفته بعد أكثر من 30 سنة عمل وأقدم محموعة مجهولة على إضرام النار في بيته ما أدى الى إقدام البنك الذي يتعامل معه على فرض عقلة مالية عليه “.
وأفادت هناء أن طريقة فصلها عن العمل جاءت بعد تلفيق ملف في حقها أدى الى فصلها عن العمل ودعت في هذا الصدد رئيس الجمهورية الى وضع حد لهذه الانتهاكات التي تحدث مع المبلغين.
وقالت هناء ” في بداية الأمر تواصلت مع وزيرة الطاقة واطلعت على فحوى الملف ثم قطعت إتصالها معي نهائيا والى اليوم أحاول مرارا وتكرارا حلحلة هذا الملف وتحريكه ولكن دون جدوى “.
وأضافت هناء أنها حاولت في عديد المرات مقابة الوزيرة لكن يتم اعلامها بأن الوزيرة مشغولة ويتم تقديم شخص مجهول الهوية على أنه مدير الديوان صلب وزارة الطاقة”.
تقول هناء ” خلال الايام الفارطة توجهت لأحد مراكز الأمن بمحافظة صفاقس لايداع شكاية في حق مسؤول وتم منعي، وكنت قد انطلقت في التبليغ ولأول مرة عن الفساد خلال سنة 2013، كما تقدمت قبل أن يقع غلق مقر هيئة مكافحة الفساد بمطلب تمكيني من الحماية لكن لم يقع ذلك “.
وحول وضع المبلغين عن الفساد في تونس تقول هناء ” للأسف في تونس هنالك دوما خياران، اما أن تكون صلب منظومة الفساد ولا تبدي أي موقف أو تختار التبليغ عما شهدت وتفصل عن عملك ثم يتم التنكيل بك من طرف الذين رصدت عنهم اخلالات “.
تبدو وضعية هناء معقدة نوعا ما خاصة وأنها تم توقيفها عن عملها منذ أكثر من 8 أشهر الأمر الذي يعني أن عدم توفر أي هيكل معني بالتبليغ عن الفساد في تونس بعد غلق الهيئة تسبب في مزيد التنكيل بالمبلغين عن الفساد.
مع كل محاولة تبليغ أو تحريك للملق وفي كل المناسبات كانت التفقدية العامة بوزارة التربية توجه لي باستمرار استدعاءات وتهددني في وظيفتي كأستاذ
المبلغ عادل الزواوي
في سياق أخر تحدث مدرس التاريخ والجغرافيا عادل الزواوي عن قصته كمبلغ عن الفساد، في ملف استغلال لافتات اشهارية بمؤسسة تربوية خارج الاطر القانونية من طرف مسؤول سابق كان يشتغل بوزارة التربية ورجل أعمال ومرشح للانتخابات الرئاسية خلال سنة 2018.
يقول عادل ” خلال الفترة التي انطقت فيها بالتبليغ عن الملف، توجهت إلى وزير التربية أنذاك وقدمت له كل الوثائق وعملت جاهدا على ابلاغه بكل الامور ثم توجهت إلى هيئة مكافحة الفساد خلال أكثر من مرة، وخلال كل المناسبات كانت التفقدية العامة بوزارة التربية توجه لي باستمرار استدعاءات وتهددني في وظيفتي كأستاذ”.
وأشار عادل بأنه حتى مع ابلاغ وزير التربية وهيئة مكافحة الفساد بالملف وهيئة الحقيقة والكرامة إلا ان الادارة واصلت في مضايقته حسب تعبيره، وكان الاستاذ قد سلمنا أخر استدعاء كان قد بلغه من وزارة التربية وتحديدا من التققدية العامة بالوزارة والتي قال بحسب تعبيره وأنها كانت بسبب تبيلغه عن الملف.
وأضاف المبلغ عن الفساد بالقول حول تجربته ” أتذكر جيدا ذلك اليوم، عندما ترى بعينيك الانتهاك والاخلال ولا تقدر على فعل أي شيء، توجهت قبل ذلك وبعده إلى الوزارة والى هيئة مكافحة الفساد وحتى إلى احد القضاة بوزارة أملاك الدولة لكن لا مستجيب.. تحدثت عن الموضوع خلال أكثر من مرة وحاولت التبليغ والكشف عنه لكن لم يكن هنالك احد يهتم.. الجميع يعتقد بأنني اسعى لتصفية حسابات شخصية ومع كل تحريك للملف أجد نفسي أمام تفقدية وزارة التربية
هرسلة كبيرة تعرض لها عادل وقيس وهناء وأعداد كبيرة أخرى منهم المذكورين في تقارير الهيئة من المبلغين عن الفساد في تونس وسط دعاو متكررة للاستجابة إلى وضع المبلغين عن الفساد والملفات المطروحة.
مصير المبلغين عن الفساد في تونس.. أي حلول لانهاء هذا العذاب؟
بعد مرور أكثر من عامين منذ اعلان الرئيس غلق مقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الفساد مازال إلى حد اللحظة مصير المبلغين عن الفساد في تونس مجهولا، خاصة وأن الرئيس قيس سعيد والحكومة لم يعلنا اتخاذ أي اجراءات واضحة تضمن حقوق هذه الفئة.
في هذا الاطار وحرصا منا على متابعة الملف كنا قد أجرينا مقابلة مع البرلماني التونسي بدر الدين القمودي رئيس لجنة مكافحة الفساد بالبرلمان المنحل قبل 25 جويلية، وقال القمودي بخصوص ملف التبليغ والمبلغين “بحسب التشريعات القانونية التونسية هنالك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي تتولى متابعة هذه المسألة بالتفصيل.. للأسف إلى اليوم الهيئة مغلقة ونحن ندعو اليوم الى ضرورة اعادة فتحها ومراجعة النصوص القانونية المنظمة لها أو توكيل مهمة مكافحة الفساد في تونس إلى هيكل أخر يقوم باستقبال تبليغات المواطنين ومختلف الاطراف المعنية بهذا الموضوع”.
من جانب أخر تحدث البرلماني عن حزب حركة الشعب بدر الدين القمودي لـ” تونيبزنس” حول مسألة حماية المبلغين وقال القمودي في هذا الاطار” المبلغون فيما ما مضى كانوا يحتمون بهيئة مكافحة الفساد وهي التي تقدم لهم شهادة مبلغ عن الفساد وهي التي تشرف على حمايتهم لكن للأسف اليوم ظهور المبلغين عن الفساد عارية وتتم يوميا ملاحقة العديد منهم وهرسلتهم “.
وكشف القمودي في هذا الصدد أن البرلمان مسار 25 جويلية جاء لحماية هؤلاء وضمان حقوقهم منبها إلى ضرورة أن لا يقتصر الأمر على رفع الشعارات، داعيا السلطة التنفيذية بالبلاد إلى ضرورة الاهتمام بهذه الفئة، وأشار القمودي أيضا إلى أنه توجه بسؤال كتابي إلى رئيسة الحكومة قبل أن يتم اعفاؤها حول الهيئة ومألاتها وان كانت رئاسة الحكومة تفكر في اعادة بعثها من جديد أو احداث هيئة جديدة تضمن للمبلغين حقوقهم وتضع حد لهرسلتهم وتستئصل الفساد من مختلف مؤسسات البلاد.
من جانب أخر، ينتقد اليوم بعض السياسيين المساندين لقرارات الرئيس قيس سعيد قرار غلق الهيئة معتبرين أنها لم تكن تعمل على مكافحة الفساد بقدر ما كانت تخدم مصالح شخصيات معينة.
و تحدث في هذا الاطار الناطق الرسمي باسم مسار 25 جويلية محمود بن مبروك لـ”ألبيرو” قائلا ” قرار غلق هيئة مكافحة الفساد جاء على اعتبار أنها لم تقم بالدور الموكول لها باعتبار وأنها غضت النظر عن عديد ملفات الفساد خلال الحقبة الفارطة”.
في المقابل، اعتبر بن محمود أن هذا لا يعني أنه يجب اهمال مسألة التبليغ عن الفساد في تونس منبها إلى اهميتها، وقال بن محمود أنهم كسياسيون سيدعون رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى سن مرسوم يضمن حقوق المبلغين عن الفساد ويمتعهم بالحماية حتى لا تحدث أية انتهاكات في حقهم.
في سياق أخر، عملنا خلال لقاء أجريناه مع وزير التربية الاسبق محمد علي البوغديري قبل اقالته على البحث في تعاطي الوزارة مع مسألة التبليغ عن الفساد، ويأتي هذا على ضوء بعض المعطيات التي كشفت عن وجود مبلغين صلب الوزارة المذكورة، وبسؤاله عن أهمية حماية المبلغين عن الفساد اليوم في مؤسسات وزارة التربية قال ” طبعا نحن نستمع إلى المبلغين عن الفساد ونعمل على التأكد من الامر ولنا تفقدية عامة وهي التفقدية العامة الادارية والمالية”.
وحول اداء هذا الهيكل قال البوغديري وقتها ” نحن نسعى اليوم إلى مزيد تطوير التفقدية وتمكينها من كل الاليات للقيام بواجبها كما انه هنالك قسم للشؤون القانونية بوزارة التربية وبالتالي فانه ليس من مصلحة الوزارة ولا من مصلحة المسؤولين عن الوزارة أن يقع التسامح مع أي شخص ترد في حقه معطيات تفيد أمورا مشبوهة وفي نفس الوقت لا يمكن أن نعاقب موظف بناء على تقرير عادي الغاية منه التشويه”.
وحول ما تعرض المبلغ عادل الزواوي كنا قد اتصلنا بالوزير الاسبق ناجي جلول والذي تقلد رأس الوزارة في الفترة التي اثير فيها الملف وانكشف، وقال ناجي جلول لتونيبزنس ” في الفترة التي شغلت فيها منصب وزير، كنت قد تقدمت بقضية في حق صاحب الشركة نبيل وشقيقه غازي القروي والمندوب الجهوي أنذاك المسؤول على الملف ، وفي الفترة الذي قمت خلالها بهذا الواجب كانت قناة نسمة قد شنت عليا حملة اعلامية لتشويهي وكذا هو الامر مع حزب قلب تونس، فقد كان قد توجه في نفس الفترة نبيل القروي إلى الرئيس الباجي قائد السبسي، وافتعل لي مشكل مع الرئيس “.
وأشار جلول في ذات الصدد ” لا أدري إلى أين وصل الامر ولكنني اعرف جيدا بأن الموضوع مازال مطروحا لدى القضاء التونسي.. للاسف مرت سنوات ولم يفتح الملف ويعرض أمام انظار القضاء إلى بعد خروج الولباني والقروي وشقيقه من البلاد”.
وبالعودة الى النائب بالبرلمان المنحل الصحبي بن فرج كان قد أوضح لتونيبزنس بأنه كان يستقبل باستمرار تشكيات المبلغين عن الفساد وأنه كان يعمل على التواصل مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومختلف الجهات المعنية بالملف لوقف ما يتعرض له مختلف المبلغين لكن يبدو أن شيئا لم يتغير.
رحلة قيس لمهندي سيرا على الاقدام بعد مسافة تجاوزت الـ 170 كيلومترا لم تعمر طويلا في العاصمة، فبعد تعكر حالته الصحية نقل إلى المستشفى والتقى على اثر ذلك والي محافظة بن عروس وقال أن لقاءه به كان بأمر من رئيس الجمهورية.
في المقابل إلى حد اللحظة وبعد أكثر من 10 أيام مازلت الصورة بالنسبة لقيس غير واضحة، الملفات في الرفوف ولم يتغير أي شيئ، والصورة هي نفسها بالنسبة للمهندسة هناء والمدرس عادل وعدد أخر كبير من المبلغين عن الفساد في تونس، ويبقى السؤال متى يتم اتخاذ أية اجراءات باعادة هؤلاء إلى وظائفهم، أو على الأقل كما يقولون هم ويتساءلون، متى يتم البت في ملف من ملفات الفساد التي تقدمنا بها للهيئة والقضاء التونسي.