ترافق طفليها قرب أحد الطرقات على بعد ثلاث كيلومترات من وسط العاصمة تونس، “إيفون”، مهاجرة غير نظامية تتكأ على شجرة تنتظر ما يهبها المارة لتُعيش طفليها(3 و6 سنوات).
لم تختر التسول مهنة، وزنها الزائد وعدم قدرتها على التحرك بشكل سهل دفع إيفون للتنقل بشكل يومي من مقر إقامتها بمنطقة الكرم شمالي العاصمة إلى مفترق طرقات أين يرافقها ولداها الصغيران كل يوم لتحصيل ما يسد عنهما الجوع والعطش.
إيفون مهاجرة غير نظامية من الكاميرون
كثيرات هنّ وكثيرون هم الأفارقة من جنوب الصحراء من وصلوا إلى تونس كممر إلى الضفة الشمالية للمتوسط، تقطعت بهم السبل وباتوا محاصرين بين توفير البعض من الأكل والماء بشكل يومي للعيش وسط هروب متكرر من الأمن لئلا يجدوا أنفسهم عائدين إلى بلدانهم التي اختاروا أن يهجروها.
فرص عملٍ قليلة وأجور لا ترتقي إلى تغطية احتياجاتهم اليومية، دون الخوض في ما فقدوه في طريق الوصول إلى تونس، حيث لم يبقى للكثيرين إلا بعض الملابس بعد أن ضاعت كل أحلامهم في طريق الوصول إلى ميناء الرحيل عن بلدانهم وعن القارة برمتها.
تقول إيفون(مهاجرة غير نظامية من الكاميرون) تجاوزت الـ45 من العمر وتحاول الفرار بوجهها لئلا نرى نظرات الحزن في عينيها: “وصلت إلى تونس منذ نهاية السنة الماضية، فقدت زوجي ويجب أن أوفر للصبيين ما يحتاجانه.. كل يوم أبحث عن عمل، لكن الأمر صعب غالبًا، وكأنني علقت بين ما كنت أتمناه وهذا الواقع المرير هنا في تونس”.
لا أماكن للعمل وفي أحيان كثيرة لا مكان للسكن إن لم يتوفر المال المطلوب لخلاص الإيجار، خاصة مع استغلال هؤلاء وهواتي المهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء في أعمال مرهقة ولساعات طويلة بالنسبة للذكور، وفي أعمال لفترات قصيرة وبأجور متدنية بالنسبة للإناث.
تضيف بقولها “أعمل بالشؤون المنزلية أو رعاية الأطفال، في أحيان عدة لم يتم خلاصي رغم عملي من الصباح وحتى ساعات متأخرة من الليل، الأمر يحمل ظلمًا واستغلالًا، وعليّ أن أواصل المحاولة للحصول على قوت الصبيين”.
فرص عملٍ قليلة وساعات عمل لا تنتهي..!
فاطاما مهاجرة غير نظامية من سيراليون
فاطاما، أو فاطمة الشابة القادمة من سيراليون، ذات الـ24 عامًا، على ظهرها تحمل طفلها الذي لم يبلغ سنته الرابعة بأحد أنهج حي شعبي بولاية أريانة، تحدق طويلا بهاتفها وتتواصل مع مهاجرين آخرين لعل أحدهم يجد لها عملًا..
تقول فاطمة إنها عملت في أكثر من مناسبة وتفضل دائمًا أن يكون العمل في مطعم؛ شعبيًا كان أو راقيًا بأحواز العاصمة أو في ولاية أريانة، تريد أن تبقى بعيدة عن الأنظار حتى لا تجد نفسها ملاحقة من الشرطة التي سبق وأن تعهدت لها بعدم العمل خلسة في ثلاث مناسبات.
لا تحبذ أن تعوّل على غيرها، حيث تقول “أعاني كثيرًا وكل يوم أجلس جوار أحد الفنادق عليّ أحصل على عملٍ ولو لفترة قصيرة، البعض يعدني بأن يمكنني من عمل لكن كثيرين يبحثون عن استغلالي بأجر زهيدٍ.. لم أستسلم وأعتقد أن بقائي هنا لن يطول، غادرت بلدي لأبحث عن فرصة جيدة لحياة محترمة، لكن ما أعيشه بعيدٌ تمامًا عما انتظرت”.
سياق اقتصادي وسياسي لا يخدم المهاجرين غير النظاميين
عن واقع الوضع المادي والاستغلال الذي يتعرض له الأفارقة من جنوب الصحراء، المهاجرون غير النظاميون يعتبر رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر أن السياق السياسي والاقتصادي في تونس فرض حالة من الهشاشة المضاعفة على المهاجرين غير النظاميين في تونس وعلى وجه الخصوص ذوي البشرة السوداء المتواجدين في تونس بسبب حرمانهم من العمل والتنقل وحتى الإقامة.
وأضاف بن عمر “هناك جهات معينة تعمل على استغلال هؤلاء المهاجرين غير النظامين كحجز وثائقهم وهواتفهم وحتى أجورهم لفترات، ما يفرض عليهم البقاء بنفس العمل الذي يطالَبون فيه بساعات عمل طويلة مقابل الأكل فقط في أحيان كثيرة، وخاصة في مجالي البناء والفلاحة التي يكونون فيها في أماكن بعيدة عن الأنظار حيث لا صوتهم يصل ولا شكواهم تجد من يتلقفها”.
رمضان بن عمر – رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
وشدد على أن الأمر بالنسبة للمهاجرات غير النظاميات يكون بالعمل في المنازل في الشؤون المنزلية التي تكون بدورها شاقة مع تزايد طلبات من يمنحونهم الأعمال حيث يشترطون العمل لسعات مقابل حفنة من المالي لا تكفي لتكاليف باهظة يواجهونها.
“الرحلة لا يجب أن تنتهي هكذا”..
باباكار شاب من دولة غينيا(22 سنة)، يرى أن استمرار الأمر على ما هو عليه من استغلال له في أعمال شاقة في تونس لن يستمر، متواجد بقلب العاصمة منذ تسعة أشهر وسبق له العمال في البناء والطلاء والنجارة.
باباكار الشاب الحالم بتغيير وضعه والنجاة يرى أن رحلته الطويلة وصولًا إلى تونس يجب ألا تكون نهايتها بهذه الطريقة حيث يتقاضى أجرا زهيدًا بحسب تعبيره فالأمر لا يتجاوز العشرين دينارًا عن يومٍ عمل يستحق أكثر من ذلك.
يقول الشاب الغيني إن “العمل من الثامنة صباحًا إلى الساعة السادسة مساءً يستحق أجرًا محترمًا فالبعض يمنحنا أجرًا لا يتجاوز 500 دينار شهريًا، وأحيانًا نقضي أسابيع بلا عمل”.
ويعتبر رمضان بن عمر أن تسوية وضعيات المهاجرين غير النظاميين أمر يجب أن تنتبه له الدولة حتى لا يتم انتهاك حقوقهم ولا يتم استغلالهم خاصة أنهم يقدمون عملًا وجهدًا قد لا يتوفر في نظرائهم من العمال التونسيين.
باباكار – مهاجر غير نظامي من غينيا
وضع غير قانوني وخوف من العقاب..!
يرى القاضي التونسي عمر الوسلاتي المستشار لدى محكمة الاستئناف بتونس بأن المهاجرين غير النظاميين الموجودين في تونس والذين وصلوا إلى التراب التونسي خلسة، قانونًا هم أجانب مرتكبون لجريمة وفق ما ينص عليه القانون التونسي تستوجب الملاحقة، وأضاف بأ، تشغيلهم ممنوع ما لم يتم إعلام السلط الأمنية باستثناء من يحملون صفة “اللاجئ”.
وأضاف أنه في أحيان قليلة يتم الاعلام على استغلال المهاجرين غير النظاميين لأنهم يخشون الملاحقة القانونية وترحيلهم إلى بلدانهم، أما المهاجرات غير النظاميات ممن يتعرضن إلى استغلال أو جرائم مهمًا كان نوعها فهن يتجنبن التوجه للأمن لأنهن يدركن بأن أوضعاهن غير قانونية بشكل مبدئي.
عمر الوسلاتي – قاضي ومستشار لدى محكمة الاستئناف بتونس
إيفون الجالسة على قارعة أحد الطرقات باحثة عمن يمدها بحاجتها رفقة صغيريها، أو فاطمة التي تكرر مشهد انتظار فرصة عملٍ أمام أحد الفنادق، أو باباكار الذي تعلم مهن البناء والطلاء والنجارة ليوفر قوت يومه، بعضٌ من آلاف القصص التي يعيشها المهاجرون غير النظاميون في تونس حيث ترافقهم ليلًا نهارًا أحلام قليلة وبصورة أكبر كوابيسُ الخوف من الغد.. أسئلة عديدة؛ “هل نتمكن من النجاة؟ هل نصل الجهة التي وضعناها ببداية الرحلة؟ أم أن المصير عودة إلى الوطن أو غرق في عرض البحر”.
أشرف على هذا العمل ميدانيا كل من الصحفية نهلة الحبشي والصحفية حنان العباسي وتولى الصحفي علاء حمودي الاخراج الرقمي وتحرير القصة