عندما تتجاول في شوارع العاصمة تونس وكل المدن التونسية تلاحظ وجود عدد من الأطفال والنساء والشيوخ ينتشرون امام المؤسسات العمومية والخاصة و”يمتهنون” التسول، في كل الأمكنة وعلى مدار كل الأزمنة، ليخيل اليك أن هذه الظاهرة ما عادت منتشرة بسبب الحاجة فقط وانما لأسباب أخرى منها أنها صارت الطريقة الاسهل التي يمكن أن يكسب بها الناس.
وشهدت هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة انتشارا كبيرا خاصة في المدن الكبرى بمختلف ولايات الجمهورية، ليظل بذلك انتشارها وامتدادها مرتبطا الى حد ما بتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد والتي لم تكن الى حد ما لدى انتظارات التونسيين.
ونحن نتنقل في شوارع مدينة الحمامات التابعة لولاية نابل، نجد في أغلب شوارعها أطفالا لا تتجاوز أعمارهم 12 سنة في جل مفترقات الطرق وأمام المحلات التجارية الكبرى وحتى في المنطقة السياحية، باعتبارها من المناطق التي تشهد حركية متواصلة أي يمكن أن يتعاطى العديد من هؤلاء مهنة التسول “الصريح” أو “المقنع” والمتمثل في بيع منتوجات صغيرة لا يمكن أن تحقق زادا على غرار العلكة والمناديل الورقية وغيرها.
بناء على ما يمكن ان تلاحظه العين المجردة، يختار هؤلاء الناس مناطق معينة أو جهات دون غيرها للتسول ويكون هذا بحسب طبيعة المنطقة والنشاط التي تتميز به، كالمناطق السياحية على سبيل المثال التي تستقطب الأجانب أو التونسيين من ولايات ومدن أخرى.
هكذا اذا صارت شوارع مدينة الحمامات، مكسية بتونسيين وسوريين يجوبون شوارع هذه المدينة السياحية بصفة يومية من أجل جمع المال والتسول، ويحاولون استعطاف المارة ورواد المحلات التجارية الكبرى، خاصة اذا ما توقفنا عند أخر احصاء قدمته الجمعية الدولية لحقوق الطفل والتي قالت بأن 85 % من مجموع 5000 متسول يمتهنون التسول في حين ان 15 % من العدد المذكور هم من المحتاجين.
وبحسب الملاحظة، فان أغلب الفئات المتسولة بالشوارع هي من فئة الاطفال، حيث تمكنا من رصد أكثر 10 أطفال في كل مفترق واشارة ضوئية بالمدينة، قابعين تحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف والبرد والمطر يعصف بأجسادهم الهزيلة في الشتاء يبيعون ويحاولون استعطاف المارة لتمكينهم من بعض المليمات عبر شراء علبة مناديل منهم.
أنتم تحت المراقبة..!
بناء على التجربة الميدانية، مررت بجانبهم وحاولت الاقتراب من أحدهم، ومن ضمن العينات طفلة جميلة لا يتجاوز عمرها الـ8 سنوات، قالت إن اسمها “أحلام”، اسمها الكلمة الوحيدة التي نطقتها واشارت الي بعيناها اللتان تكشفان عن تعب وارهاق كبيرين، مشيرة الى وجود سيدة تراقبها هي وباقي الصغار المتسولين من مسافة بعيدة.
حاولت التحدث مع طفلة أخرى يظهر أنها أكبر سنا من البنت “أحلام” لكنها بقيت تشير إلى السيدة وقالت لي اشتري مني علكة وساعديني.. العلبة بـ500 مليم.
توجهت اليها بصفة مباشرة قصد شراء علبة علكة، وحاولت توجيه عدد من الأسئلة اليها منها ما يتعلق بالمكان التي جاءت منه ووجدت نفسها في الشارع ولماذا ليست كسائر الفتيات التي تدرسن في المدرسة،فأجابتني بصوت خافت “عمتي فلانة” تراقبنا لا يجب أن نتحدث مع أحد.
وأضافت البنت بصوت مرتعش “أشعر بتعب كبير الشمس حارقة والجوع فتك بجسدي الصغير.. أرجوكي ساعديني لأشتري اي شيئ أسد به رمقي أنا وأختي.. انظري انها تقف في الجهة الأخرى من الطريق !”.
واضافت الفتاة بصوت خافت، نحن من ولاية مجاورة تركت ان وأختي المدرسة منذ السنة الماضية، حاول البنت مواصلة الحديث حتى تركتها وتوجهت الى مكان أخر بعد ملاحظتي قدوم السيدة من بعيد الي بسرعة.
نحن فقراء وهؤلاء الأطفال يساعدون عائلاتهم
قدمت السيدة التي تراقب الأطفال بأحد مفترقات الحمامات نحوي وبدأت تطرح علي أسئلة بصفة مرتبكة، من أنت وماذا تفعلين هنا، قدمت نفسي لها واستظهرت ببطاقتي المهنية، لكنها صدتني وقالت لي نحن لا نتحدث لأحد وابتعدي عن هؤلاء الاطفال.
حاولت التقصي عن هويتها ومن تكون وما وظيفتها مع الاطفال وهل ينتمون لشبكة وغيرها من المعطيات، لكنها اكتفت بالقول إنهم فقراء ويعملون من أجل كسب قوتهم اليومي.
وأضافت بالقول ” أنا سيدة في الـ 50 من عمري ولي 3 أطفال يعملون مع هؤلاء الأطفال ويبيعون منتوجات بسيطة ورخيصة لكسب بعض المليمات التي لا تفي حتى لتوفير الأكل والشرب لهم.
وتابعت المرأة وعلى وجهها علامات الارتباك”سيدتي ابتعدي عنا دعينا نعمل لا نريد التحدث مع أحد ولا نرغب في الحديث في أي موضوع كان “.
واردفت بصوت فيه نوع من الغضب والتحدي “أنا مسؤولة على سلامة هؤلاء الأطفال وهم يساعدون عائلتهم للعيش”.
اكتفت بهذه الكلمات، وغادرت بعد ان اشارت لي بضرورة المغادرة محاولة تهديدي بالاتصال بالأمن أو التصرف مع بطريقة أخرى، كما قالت.
نأتي من مدينة مجاورة ونحاول جمع بعض المال لنلتحق بمقاعد الدراسة
امام مغازة كبيرة يجلس طفلين فتاة وولد، ملامحهما متشابهة، أقتربت منهم وتحدثت معهم قليلا بأريحية، يبدو أنه لا أحد يراقبهم، ربما لأنهما تجاوز 14 سنة.
قالت مريم انا وأخي محمد توأم، أتينا من ولاية مجاورة لمدينة الحمامات، ونحن كما ترين نحاول جمع بعض المال لشراء مستلزمات الدراسة.
وقاطعها محمد ” العودة المدرسية انطلقت منذ أكثر من الشهر ونحن ندرس في السنة الثامنة أساسي والى اليوم لم نتمكن من استكمال كل الادوات المدرسية”، مشيرا إلى أن والدته مطلقة وتعمل في المجال الفلاحي، وفق تعبيره.
وأضاف نحن اضطررنا الى التسول لنكمل دراستنا، نحن لا نريد الانقطاع، وفق تعبيره.
من جهتها، قالت مريم في اجابة على سؤالي حول من يؤمن نقلهم الى الحمامات، إن شاحنة تأتي في الصباح الباكر محملة بأطفال ونساء وتوزعهم في كل المدنية كل له مكانه، حسب قولها.
وتابعت “من يعمل في هذا المجال معروف في منطقتنا واتصلنا به ليمكننا من “التسول” مع فريقه مقابل نسبة مما نجمعه”.
لا نجني الكثير..
أكدت مريم انهم لا يجنون الكثير من المال لأن الناس ليسوا كالسابق يعتبرون كل المتسولين متحيلين، وفق قولها.
وأضافت نجمع 30 أو 40 دينار يأخذ منها صاحبة الشاحنة 10 دنانير يوميا، مشيرة إلى أنها هي واخيها لا يمتهنون التسول بل اضطروا لذلك.
وأكدت انها عمل في الصيف هي وأخيها مع امها في المجال الفلاحي لكن لم يتمكطنوا من توفير كل الأدوات والمستلزمات.
5 آلاف متسول في تونس الكبرى
قال رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان رضا كرويدة، في تصريح لموقع “تونبيزنيس”، إن التسول أصبح مهنة في تونس.
وأضاف أن عدد المتسوّلين في تونس الكبرى يتراوح بين 4500 و5 آلاف في تونس الكبرى.
واعتبر أن ظاهرة التسول أصبحت ظاهرة خطيرة في تونس، حيث أن 15 بالمائة من المتسولين فيقط من الفقراء والمحتاجين.
ودعا الى ضرورة التدخل للحد من هذه الظاهرة من خلال تنفيذ القانون عدد 39 الذي يجرم استغلال الاشخاص من أجل التسول.
التسول أصبح مهنة تديرها عصابات
قال المتحدث إن المتسولين أصبحوا من كل الفئات العمرية ومن الرجال والنساء، مبينا أن 60 بالمائة من المتسولين نساء.
وأشار إلى أنه يتم استغلال الأطفال في التسول وهو يندرج في إطار الاتجار بالأطفال.
ودعا مندوب حماية الطفولة الى فتح تحقيق والنظر في وضعية هؤلاء الأطفال.
وشدد على أنه يتم استغلال هؤلاء الاطفال كذلك في عمليات السطو ‘ البركاجات”، مفيدا بأنه بعد رصد عدد من المتسولين من قبل أعضاء الجمعية تبين أن تديرهم عصابات.
كما أظهرت عملية الرصد وجود بعض المتسولين من ميسوري الحال ويمتلكون سيارات ومنازل.
وأشار إلى وقوف عصابات الإتجار بالبشر خلف هذه الظاهرة، قائلا إن المتسولين يكسبون يوميا بين 100 و150 دينارا.
ولفت إلى وجود عدد كبير من المهاجرين من دول افريقيا يمتهنون التسول خاصة في المدن الكبرى.
على السلط التدخل
دعا محدثنا السلطات المعنية الى التدخل للحد من هذه الظاهرة وايجاد حلول للأطفال الذين يتم استغلالهم من جهات غالبا ما تكون من خارج العائلة.
وأضاف ان التدخل يكون من خلال متابعة المتسولين حالة بحالة والتصدي للعصابات التي تستغل الاطفال والنساء.
ودعا الى تكوين لجان خاصة للتصدي لهذه الظاهرة وتنفيذ القانون.
وفي سياق أخر، بين ان الجمعية قامت بهذه الدراسة من خلال أعضاء الجمعية وبصفة مجانية، قائلا “كلفة هذه الدراسة صفر مليم، وفق تعبيره.