بعد عام من الصمت الذي فرضته مآسي الحرب في غزة، تعود أيام قرطاج السينمائية هذا العام لتكون أكثر من مجرد مهرجان سينمائي. هو أسبوع استثنائي يجسد إصرار الفن على الاستمرار، ويؤكد على دور السينما كأداة مقاومة وتوثيق للألم والنضال. في هذه الدورة، يُعيد المهرجان إحياء فعالياته من خلال 217 فيلمًا من 21 دولة، إذ تتحول العاصمة التونسية إلى فضاء حيوي ينبض بالحياة السينمائية من 14 إلى 21 ديسمبر 2024.
تجتمع الأفلام في هذه الدورة لتروي قصص الشعوب وأحلامها، وتعيد صياغة الأحداث والتجارب التي شكلت تاريخها المعاصر، مع التركيز على الإبداع والتنوع الذي يميز صناعة السينما في العالم. دورة هذه السنة هي دورة التحدي، دورة استكشاف الذاكرة والهوية في سياقات متجددة، حيث تلتقي رؤية الحاضر مع أصوات الماضي لتروي قصصًا جديدة، ومشاهد تلامس القلوب وتحفز التفكير.
أفلام تونسية في الواجهة والمسابقة الوطنية تفتح آفاقًا جديدة للإبداع المحلي
في النسخة 35، تحضر السينما التونسية بقوة، وكأنها تكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الفن السابع. 17 فيلمًا تونسيًا يتنافسون في المسابقات الرسمية، مصرين على ترك بصمتهم بين في هذا الأسبوع السينمائي. أما في المسابقة الوطنية الجديدة، فيتألق 12 فيلمًا تونسيًا، وهو قسم جديد يمنح السينما المحلية فرصة حقيقية للتنافس على الجوائز، ليؤكدوا أن تونس تبقى في قلب المشهد السينمائي العالمي، وأن الإبداع السينمائي لا حدود له.
وفي خطوة جديدة، أتى قسم المسابقة الوطنية ليمنح السينما التونسية أفقًا جديدًا، حيث يتنافس فيه 12 فيلمًا تونسيًا. لتبرز هذه الإضافة الطاقات الإبداعية المحلية وتمنحها الفرصة للتألق، معلنة بذلك حضورها القوي في المهرجان واحتفالًا بالإبداع السينمائي المتجدد.
في قسم الأفلام الروائية الطويلة، نجد 4 أفلام تونسية:
- ماء العين للمخرجة مريم جعبر
- عايشة للمخرج مهدي برصاوي
- الذراري الحمر للمخرج لطفي عاشور
- برج الرومي للمخرج المنصف ذويب
أما في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية الطويلة، فقد شهدنا 3 أفلام تونسية تسجل حضورها:
- الذكريات والأحلام للمخرج إسماعيل
- ماتيلا للمخرج عبد الله يحيى
- شهيلي للمخرج حبيب العايب
وفي مسابقة الأفلام الروائية القصيرة، تضمنت المشاركة التونسية 4 أفلام:
- في ظلمات ثلاث للمخرج حسام سلولي
- عالحافة للمخرجة سحر العشي
- ليني أفريكو للمخرج مروان لبيب
- ماكون للمخرج فارس نعناع
أخيرًا، في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة، سجل فيلمين حضورهما:
- أنامل للمخرجة عائدة الشامخ
- الأيام الأخيرة مع إليان للمخرج مهدي الحجري
فلسطين في قلب الشارع
“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، تظل كلمات محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الذي اختزل آلام شعبه وآماله في شعره، تعبيرًا صادقًا عن الهوية الفلسطينية التي لا تزال تحيا في ظل التحديات المستمرة. في دورة 2024 من أيام قرطاج السينمائية، تواصل السينما الفلسطينية حضورها القوي كأداة للحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني وأمله في التحرر، لتثبت أن الفن هو أقوى أدوات المقاومة والوعي.
تحت شعار “فلسطين في قلب الشارع”، تقدم الدورة الجديدة مجموعة من الأفلام الفلسطينية في موقع حيوي بوسط تونس، شارع الحبيب بورقيبة. هذه الأفلام ليست مجرد عروض سينمائية، بل رسائل تحمل بين طياتها قصصًا من قلب فلسطين، من كبار المخرجين الفلسطينيين الذين سجلوا أسماءهم في تاريخ السينما إلى الشباب الذين ينقلون تجاربهم وتطلعاتهم إلى الشاشة.
كما يُعرض ضمن البرنامج أفلام لمخرجين غير فلسطينيين تعكس نظرتهم للأحداث الفلسطينية، مما يعزز الحوار الدولي حول هذه القضية. وفي خطوة مميزة، يُنظم معرض يعرض تاريخ السينما الفلسطينية، ويتضمن أرشيفًا من الأفلام واللحظات المؤثرة التي تجسد مقاومة الفلسطينيين وعزيمتهم، مما يتيح للزوار فرصة فهم أعمق لقوة السينما كوسيلة للتوثيق والنضال.
افتتاح بروح إنسانية نضالية
تفتح أيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ 35 أبوابها لتمنح الفن السابع فرصة التعبير عن قضايا الهوية والنضال والإنسانية.حيث يعرض المهرجان فيلمين ينسجان خيوطًا من الألم والأمل في تجربة سينمائية مفعمة بالمعنى.
الفيلم الفلسطيني القصير “ما بعد”، للمخرجة مها حاج، ينقلنا إلى عالم سليمان ولبنى، زوجين يعيشان في عزلة هادئة مع أطفالهما الخمسة. حياة تبدو كلوحة متكاملة حتى يقتحمها غريب غامض، يكشف عن حقائق صادمة تقلب الموازين وتواجه الشخصيات بأعماق جديدة من ذواتهم. الفيلم، الذي شهد نجاحات لافتة في مهرجانات عالمية مثل لوكارنو والجونة، يسلط الضوء على الصراعات الداخلية والروابط الأسرية المعقدة، في سرد بصري يمزج بين جمال الطبيعة وحميمية التفاصيل الإنسانية.
أما الفيلم الوثائقي “واهب الحرية”، للمخرج الراحل قيس الزبيدي، فهو شهادة حية على حقبة مقاومة لا تُنسى. الفيلم، الذي أُنتج عام 1987 وخضع حديثًا للترميم، يوثق البطولات الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني. برؤية فنية فريدة، يرصد العمل أبرز العمليات الاستشهادية التي انطلقت من جنوب لبنان، معيدًا الحياة إلى لحظات محفورة في ذاكرة النضال العربي. استحضار الفيلم في نسخة مرممة ليس مجرد احتفاء بتاريخ سينمائي، بل تكريم لمسيرة الزبيدي الحافلة، الذي كرّس حياته لإيصال صوت القضية الفلسطينية عبر عدسته.
بهذا الاختيار المميز، تفتح أيام قرطاج السينمائية أبوابها لجمهور يبحث عن قصص تلهم، تصدم، وتترك أثرًا لا يُمحى، مؤكدة أن السينما تظل مرآة صادقة لروح الشعوب.