“أرزه”… بين محطات الحياة والشوارع الطائفية لبيروت

نور حمدي

يعكس فيلم “أرزه” للمخرجة ميرا شعيب صورةً دقيقة عن واقع الحياة اليومية في لبنان، ويأخذ المشاهد في رحلة إنسانية تمتزج فيها البساطة بالتعقيد. إذ يمكن النظر إلى هذا الفيلم ليس فقط كعمل فني، بل كمرآة تُظهر التحديات الاجتماعية والسياسية التي يواجهها المواطن اللبناني، بما يتجاوز القضايا الكبرى في السياسة والصراعات الطائفية، ليركز على التفاصيل الصغيرة التي تشكل حياة الإنسان اليومية.

بدأ فيلم “أرزه” رحلته من مهرجان بكين السينمائي، حيث حقق أولى نجاحاته، لينطلق بعدها في جولة من المهرجانات العالمية التي نالت استحسان النقاد. شمل ذلك مهرجان “تريبيكا” في نيويورك، ومهرجان الفيلم الآسيوي العالمي، بالإضافة إلى “مهرجان العالم العربي” في مونتريال.

كما حظي الفيلم بعروض مميزة في مهرجانات السينما اللبنانية في باريس وأستراليا، قبل أن يعود إلى الساحة العربية مشاركًا في مهرجان القاهرة السينمائي وأيام قرطاج السينمائية. نجاحه اللافت أهله للوصول إلى القائمة الأولية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام 2025، ما يمثل خطوة مهمة تعكس تطور السينما اللبنانية على الساحة الدولية.

الشخصية الرئيسية: أرزه

“أرزه”، التي تجسد شخصيتها دياموند بو عبود، هي أم تعمل بجد للعيش في بيروت، المدينة التي تمثل صورة معقدة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. يُمكن أن يُنظر إلى “أرزه” كرمز للمرأة اللبنانية الكادحة التي تسعى لموازنة متطلبات الحياة اليومية، بينما تواجهها تحديات خارج إرادتها، مثل سرقة دراجتها النارية التي تعتبر شريان حياتها الاقتصادي. من خلال هذه الشخصية، يعكس الفيلم قضايا كبيرة مثل الفقر، والعزلة، والتحمل، ولكنه يقدمها بطريقة واقعية وغير مُزخرفة.

يظهر الحزن العميق الذي على وجه أرزه في المشاهد الأولى في شوارع بيروت من الفيلم يجسد حالة اللامبالاة التي يعيشها أفراد المجتمع اللبناني أمام الصعوبات اليومية. المخرجة ميرا شعيب تختار هذا التعبير الوجه المتألم لتسليط الضوء على الوضع الاجتماعي الصعب الذي يعاني منه الفقراء، مما يعزز ارتباط المشاهد بهذه الشخصية. وفي الوقت نفسه، لا تُصور الشخصية على أنها ضحية، بل كإنسانة مليئة بالقوة الداخلية، التي تُكافح لتوفير حياة أفضل لابنها، مما يُضفي عليها طابعًا إيجابيًا ومُلهمًا.

التنوع الطائفي

يعتمد الفيلم على تقنية سردية ذكية في التعامل مع موضوع التنوع الطائفي في لبنان. عندما تُضطر “أرزه” إلى التكيف مع ثقافات وأحياء مختلفة أثناء رحلتها لاستعادة دراجتها، نجد أن الفيلم يعكس الطبيعة المتنوعة والمجزأة للمجتمع اللبناني. حيث تتبدل لهجات “أرزه” وملابسها بما يتناسب مع كل حي تزوره، وهو ما يشير إلى ضرورة التكيف الاجتماعي في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب. هذه التغيرات في المظهر واللغة تُمثل في النهاية تفاوت الطبقات والتوجهات السياسية والدينية التي تؤثر على حياة الفرد في لبنان. ومع ذلك، فإن هذا التنوع لا يُصور كقوة موحدة، بل كعبء على الفرد الذي يضطر إلى التعايش مع هذه الاختلافات في محاولة للبحث عن حلول لمشاكله الشخصية.

الفكاهة في مواجهة المعاناة

إحدى السمات المميزة لهذا الفيلم هي استخدامه للفكاهة كآلية للتخفيف من عبء المواضيع الحساسة. في ظل المعاناة اليومية، تَظهر مواقف فكاهية من خلال تصرفات “أرزه” التي تُغيّر لهجاتها وملابسها بحسب الحي الذي تزوره، وهو ما يضيف لمسة خفيفة على مسار القصة، ويُظهر أن الإنسان، رغم المعاناة، يمكنه أن يجد فسحة من الأمل والتسلية في عالمه المزدحم بالصعوبات. هذه المشاهد لا تقلل من جدية الموضوع، بل تبرز كيف أن المجتمع اللبناني يعيش في مواجهة مستمرة مع الأزمات على أكثر من مستوى، من خلال تقديم صورة إنسانية مليئة بالتحديات، لكنها لا تخلو من القدرة على التكيف والتعامل مع الواقع.

عاصمة الأرز كمسرح للتحديات

تم تصوير الفيلم في شوارع بيروت على مدار 23 يومًا فقط في 21 موقعًا مختلفًا، وهذا الاختيار لم يكن عشوائيًا. بيروت، المدينة التي تعكس في شوارعها الازدواجية بين الجمال والفقر، تُظهر الحياة الحضرية بكافة تعقيداتها، وهي تمثل خلفية مثالية تُجسد معاناة الشخصيات. شوارع المدينة، بمبانيها المتآكلة وأسواقها الضيقة، تصبح مسرحًا يُجسد النزاعات اليومية التي يخوضها الأفراد بحثًا عن قوتهم اليومي، مما يعزز الصلة بين الشخصيات والمكان الذي يعكس همومهم وتحدياتهم.

النهاية: الأمل وسط العتمة

إن نهاية الفيلم، التي تتسم بالتفاؤل، تترك المشاهد مع شعور من الأمل، بعد رحلة من الصراع والمعاناة. “أرزه” تنجح في استعادة دراجتها، وفي تلك اللحظة، يكون النجاح ليس فقط في استرجاع الشيء المفقود، بل في قدرتها على استعادة جزء من كرامتها وصوتها في هذا العالم الصعب. هذه النهاية تُعد تذكيرًا بأن الأمل ممكن حتى في أصعب الظروف، لكن في نفس الوقت، يظل المجتمع اللبناني في مواجهة تحدياته المستمرة.

الأرزة فكرة للمقاومة

الأرزة في الفيلم، حسب تصريح للبطلة دينامود بن عبود، تتجاوز كونها مجرد رمز وطني لتصبح تجسيدًا لفكرة المقاومة. هي تجمع بين الطوائف والمذاهب، وتمثل الشعب اللبناني بمختلف أطيافه، بعيدًا عن التصنيفات الطائفية والسياسية التي تفرق بينهم في الواقع.

بقاء اسم الأرزة ثابتًا طوال أحداث الفيلم يحمل دلالة عميقة على الاستمرارية والثبات، رغم كل التغيرات والصراعات التي تواجهها الشخصيات. الأرزة هنا ليست شخصية فردية، بل صورة شاملة للوطن بأكمله، بشعبه الذي يكافح من أجل البقاء والتماسك في وجه الأزمات المتكررة.

كما أن اختيار الأرزة كعنوان للفيلم يعكس رؤية إخراجية واعية، حيث تصبح البطلة “أرزه” تمثيلًا رمزيًا للوطن، في مقاومتها اليومية لأعباء الحياة وسعيها للحفاظ على كرامتها واستقلالها. فالأرزة، مثل الشعب اللبناني، تعبر عن الصمود المتأصل في هوية هذا الوطن، وعن الإرادة المشتركة التي لا تتغير رغم الظروف القاسية.

https://media.tunibusiness.com.tn/ar/wp-content/uploads/2024/12/WhatsApp-Video-2024-12-16-a-17.42.18_45d14885-1.mp4

المخرجة ميرا شعيب: رؤية شبابية مبدعة

أحد أبرز جوانب الفيلم هو الإبداع الذي أضافته ميرا شعيب. خلفيتها الأكاديمية والتدريب في لبنان وأمريكا وأوروبا جعلها قادرة على دمج الأسلوب البصري القوي مع الحكاية الإنسانية العميقة. شعيب لا تعتمد على تقنيات سينمائية معقدة أو مؤثرات بصرية، بل تركز على سرد القصة عبر الشخصيات والمكان، مما يجعل الفيلم يبدو أكثر واقعية وأكثر قربًا من الواقع اللبناني. هذا المنهج البسيط ولكنه عميق يساهم في نقل معاناة الشخصيات والأجواء العامة للمدينة.

“أرزه” ليس مجرد فيلم عن معاناة امرأة لبنانية، بل هو دراسة اجتماعية وشخصية في الوقت ذاته. يعبّر عن لبنان بمشاكله وتعقيداته، وفي الوقت نفسه يقدم شخصية تتحدى تلك التعقيدات لتجد طريقها نحو الأمل. من خلال سرد إنساني بسيط، استطاع الفيلم أن يطرح قضايا اجتماعية مهمة بطريقة تعكس الواقع دون أن تُخفف من حدة الصراعات التي يعيشها المجتمع اللبناني.

مشاركة
علق على الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Exit mobile version