فيلم “إدراك” لـeL Seed: الفن يعيد تشكيل الواقع

نور حمدي

في قلب حي منشية ناصر بالقاهرة، تحديدًا في منطقة “الزرايب” التي تعرف محليًا بـ”عزبة الزبالين”، أطلق الفنان العالمي eL Seed مشروعه الفني “Perception”أو “إدراك” الذي تجاوز حدود اللوحة ليصبح شهادة على قوة الفن في كسر الصور النمطية وإعادة صياغة الواقع.

تشتهر منطقة “الزرايب” بكونها مركزًا لإدارة عملية جمع القمامة وإعادة رسكلتها يدويًا، حيث تُعد هذه المهنة مصدرًا أساسيًا لاقتصاد المنطقة وتوفر خدمة لا غنى عنها للقاهرة الكبرى التي تُنتج يوميًا نحو 14 ألف طن من النفايات الصلبة. ورغم أهمية عملهم، يظل سكان المنطقة محاصرين بتصورات مجتمعية تقلل من مكانتهم.

“إدراك”: إعادة قراءة الواقع بشكل فني بحت

يُوثق فيلم “Perception” رحلة تنفيذ هذا العمل الفني، الذي غطى أكثر من خمسين مبنى بلوحة أنامورفية ضخمة لا تُرى بالكامل إلا من نقطة واحدة أعلى جبل المقطم. استغرق المشروع ثلاثة أسابيع وشارك فيه فريق مكون من 22 شخصًا. وكان أساس العمل اقتباسًا للقديس أثناسيوس السكندري: “إذا أراد أحد أن يبصر نور الشمس، فعليه أن يمسح عينيه.”

لم يكن المشروع مجرد لوحة جمالية، بل رسالة إنسانية تعكس قوة التغيير في النظرة تجاه المجتمعات المهمشة. أراد eL Seed، بأسلوبه المميز في الكاليجرافيتي، أن يروي قصص السكان عبر الحروف والألوان، ويظهر الجانب المشرق من حياتهم. ولإضفاء لمسة خاصة، صُمم العمل بلون أبيض فسفوري أضاء ليلة اكتماله، وكأنه شعاع نور يخترق الظلام.

من اللحظات المؤثرة التي يوثقها الفيلم، علاقة الفنان وفريقه بأطفال المنطقة، مثل الطفلة “منة” ذات الثمانية أعوام، التي أصبحت وسيطا للعلاقة الوطيدة بين الفريق وسكان “الزرايب”. بكاؤها عند وداع الفريق في اخر الفيلم لخص عمق التفاعل الإنساني الذي تحقق، إذ تجاوز المشروع كونه مجرد لوحة ليصبح تجربة إنسانية أثرت في الجميع.

يصف eL Seed هذا المشروع في فلمه بأنه “قفزة دون مظلة”، تجربة لم يخض مثلها من قبل. أين بدأ المشروع بحالة من القلق والخوف من الفشل، لكنه انتهى كواحد من أنجح أعماله وأكثرها تأثيرًا.

ربط بين ثنائية الماضي والحاضر في أيام قرطاج السينمائية

عندما وقع الاختيار على eL Seed لتصميم المعلقة الرسمية للدورة الخامسة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية، لم يكن مجرد تكليف فني عادي، بل كان فرصة لخلق رابط بصري وحسي بين عراقة الماضي وتطلعات الحاضر. استوحى eL Seed تصميمه من المعلقة الأولى التي رافقت المهرجان في دورته الافتتاحية عام 1966، ليقدم عملاً يمزج بين التقاليد الراسخة والتعبيرات المعاصرة.

اعتمد الفنان على ألوان الأحمر، البرتقالي، الأزرق العاتم، والأبيض. هذه الألوان كانت حاضرة في المعلقة الأولى للمهرجان، لكنها عادت لتظهر في تصميم أكثر جرأة وحداثة، يبرز التغيرات التي طرأت على المهرجان وعلى السينما التونسية والعربية عبر العقود.

كما هو الحال في أعماله الأخرى، حرص eL Seed على أن يكون التصميم لغة بصرية تتحدث إلى الجميع، وليس فقط إلى النخبة الفنية أو الثقافية. فقد حملت المعلقة تفاصيل مفعمة بالمعاني، تخاطب الذاكرة الجمعية لعشاق السينما وتثير الفضول لدى الجيل الجديد. إنها ليست مجرد صورة إشهارية تُعلق على جدران المدينة، بل دعوة مفتوحة لاستكشاف تاريخ المهرجان وتأمل دوره في تشكيل المشهد السينمائي المحلي والعالمي.

ما يجعل عمل eL Seed متفردًا في هذا السياق هو فلسفته المستمرة في تجاوز الحدود بين الفن والواقع، وبين الماضي والمستقبل. تمامًا كما هو الحال في مشروع “Perception”، حيث لا يمكن رؤية اللوحة كاملة إلا من زاوية محددة، فإن تصميمه لمعلقة أيام قرطاج السينمائية يدعو المتلقي للتأمل وإعادة النظر في رمزية المهرجان كجسر بين الأجيال، وكنافذة تجمع بين الذاكرة والبصيرة.

لا يعتبر فيلم “Perception”مجرد توثيق لمشروع فني، بل هو شهادة على قدرة الفن على تغيير الإدراك لد كل الإنسان فينا. إنه دعوة للنظر بعمق إلى المجتمعات التي نعتقد أننا نعرفها، ومراجعة الصور النمطية التي تحكم أفكارنا. كما يؤكد الفيلم على أن الفن، عندما يحمل معنى إنسانيًا، يصبح وسيلة للتغيير، لا تقتصر على الجدران التي يُرسم عليها، بل تمتد لتصل إلى القلوب والعقول.

“Perception” هو درس في الإنسانية، ورسالة تحملها الحروف والألوان، تُذكرنا أن الإدراك يبدأ حين نغير طريقة نظرنا للعالم من حولنا.

مشاركة
علق على الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Exit mobile version